الشرق الأوسط فى استراتيجية ترامب - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الإثنين 15 ديسمبر 2025 8:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

ما تقييمك لمجموعة المنتخب المصري في كأس العالم برفقة بلجيكا وإيران ونيوزيلندا؟

الشرق الأوسط فى استراتيجية ترامب

نشر فى : الإثنين 15 ديسمبر 2025 - 6:05 م | آخر تحديث : الإثنين 15 ديسمبر 2025 - 6:05 م

تشى استراتيجية الأمن القومى الأمريكى، التى اعتمدها الرئيس ترامب لولايته الرئاسية الثانية، بخروج لافت عن التوافق الحزبى الذى ميز السياسة الخارجية لبلاده منذ الحرب العالمية الثانية. كما تعكس انعطافات فكرية فى توجهات النخبة السياسية الأمريكية، التى تعلى اليوم شعار «أمريكا أولا».


شرق أوسطيًا، انطوت الاستراتيجية الجديدة على تغييرات جوهرية فى بعض المقاربات السياسية الأمريكية التقليدية إزاء المنطقة. ففى الفصل الذى حمل عنوان: «الشرق الأوسط: نقل الأعباء وبناء السلام»، أقرت بأن عصر الهيمنة اليومية للشرق الأوسط على جدول أعمال السياسة الخارجية الأمريكية، والذى امتد لما يربو على نصف قرن، قد ولى إلى غير رجعة. وفى معرض انتقادها استمرار تلك الهيمنة، أشارت إلى تقادم أسبابها الأساسية، على شاكلة: محورية المنطقة كمورد عالمى للطاقة، وساحة مركزية للمنافسة بين القوى العظمى، والصراعات المستمرة التى تهدد بالامتداد خارج الإقليم حتى تطال الولايات المتحدة نفسها. ومن ثم، تضع الاستراتيجية منطقة الإندو-باسيفيك فى قلب أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، مع تعاظم مكانة الجزء الغربى من الكوكب على حساب منطقة الشرق الأوسط. ليس بسبب فقدان الأخير أهميته، ولكن جرّاء تغيّرات جيوسياسية مصيرية اعترته، حملته على التحول التدريجى من مصدر لأزمات متلاحقة وبيئة ملحة للتدخل، إلى ساحة شراكة وصداقة واستثمار.


بعدما ظلت عقودًا تشكل القوة الأكثر زعزعة للاستقرار الإقليمى، غدت إيران اليوم أضعف من أى وقت مضى. حيث أفضت الهجمات الإسرائيلية، التى زلزلتها فى يونيو الماضي، إلى تقويض إمكاناتها العسكرية والنيل من قدرتها على دعم وكلائها. فيما أسفرت عملية «المطرقة الليلية»، التى نفذتها واشنطن بالتزامن، عن إضعاف برنامجها النووى. ورغم وصفها الصراع الفلسطينی ــــ الإسرائيلى بأنه لا يزال ملفًا معقدًا، ارتأت الاستراتيجية أن خطة ترامب واتفاق وقف إطلاق النار أسهما فى إحراز تقدم نحو سلام أكثر استدامة، مع إضعاف وإبعاد داعمى حماس. كما تمخض نجاح مساعى ترامب لتوحيد الجهود فى شرم الشيخ بغية ترسيخ السلام وتوسيع التطبيع عن إعادة إعطاء الأولوية للمصالح الأمريكية. وفيما يخص سوريا، اعترفت الوثيقة بأنها تظل «مشكلة محتملة»، لكنها قد تستقر وتستعيد مكانتها الطبيعية كفاعل إيجابى وأساسى فى الإقليم، بدعم أمريكى، عربى، إسرائيلى وتركى.


تزامنًا مع إعلان مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية أفول حقبة سياسة التدخل لتغيير الأنظمة، دعت استراتيجية ترامب إلى التخلى نهائيًا عما سمّته «التجربة الأمريكية الفاشلة فى الضغط على دول الشرق الأوسط، خاصة الخليجية منها»، مع التوقف عن محاولات إجبارها على التخلى عن تقاليدها وأنماط الحكم بها وهياكلها السياسية التاريخية، والعدول عن سياسة فرض الإصلاح من الخارج، معتبرة أن «مفتاح العلاقة الناجحة مع دول المنطقة يكمن فى قبول دولها، قادتها وشعوبها كما هى، مع التركيز على المصالح المشتركة». فإبان ولاية ترامب الثانية، تم استبدال الأهداف الأمريكية السابقة المتمثلة فى دعم حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية فى ربوعها، بالتركيز على الرخاء الاقتصادى والاستقرار الإقليمى.


بخصوص الطاقة، سلطت الاستراتيجية الضوء على تبعات تغير خريطة إنتاجها واستهلاكها عالميًا، لا سيما تعاظم حضور الطاقة المتجددة، وتصدر الولايات المتحدة قائمة المنتجين. حيث اعتبرت إدارة ترامب أن إلغاء القيود التقليدية على سياسات إنتاج الوقود الأحفوري، ومن ثم زيادة الإنتاج الأمريكى منه بما يفاقم إمدادات الطاقة محليًا وليس من دول الخليج، كان كافيًا لتراجع التركيز الأمريكى المفرط على منطقة الشرق الأوسط. لتغدو الأخيرة مصدرًا ووجهة للاستثمار الدولى، عبر التوسع فى مجالات الطاقة النووية، الذكاء الاصطناعى وتقنيات الدفاع.


رغم ما ذكر آنفًا، ستظل منطقة الشرق الأوسط محتفظة بمكانة متقدمة ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية. فعلاوة على أهميتها الجيواستراتيجية الحيوية، احتياطاتها الضخمة من الطاقة، ودورها المحورى فى تقرير مصير القضايا الأمنية والاقتصادية العالمية، تتقاطع المنطقة مع العديد من المصالح الجوهرية للولايات المتحدة، لاسيما مكافحة الإرهاب، تعزيز الاستقرار الإقليمي، واستبقاء الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي. فما برح الشرق الأوسط يشكل نقطة التقاء الحضارات، وساحة تنافس بين القوى العظمى، حيث يمتلك نحو 48% من احتياطيات النفط العالمية و40% من احتياطيات الغاز الطبيعى، كما يعد مركزًا لوجيستيًا مهمًا، مع مرور نحو 20% من التجارة النفطية عبر مضيق هرمز. وتفتأ الولايات المتحدة تحرص على لجم تمدد نفوذ القوى الصاعدة المتنافسة فيه، كمثل روسيا، الصين، تركيا وإيران. ولن يتسنى لها رفع مظلتها الأمنية كليةً عن إسرائيل، إذ سيستعصى على الأخيرة، بمفردها، إدراك الأمن المطلق، تأبيد التغيير بموازين القوى لمصلحتها، وبسط هيمنتها على الإقليم، أو فرض سلامها فيه بالقوة الغاشمة.


إبان الحرب الباردة، شكلت أوروبا جبهة أمامية ضد المد الشيوعى، تلاها المسرح الآسيوى، ثم منطقة الشرق الأوسط، التى كانت تُسمّى «الحزام المُتصدّع»، كونها منطقة ممزقة سياسيًا، غير مستقرة، وساحة صراع بين القوى العظمى. وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، احتل الشرق الأوسط صدارة الاهتمامات الجيوسياسية الأمريكية، بجرّاء الحرب ضد الإرهاب. وفى عام 2010، أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، هيلارى كلينتون، عن استراتيجية «التحول شرقًا»، أو ما يُعرف بـ«إعادة التوازن»، التى ركزت على توجيه الاهتمام والموارد الأمريكية نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لاحتواء الصعود الصينى، مع الإبقاء على شراكات تقليدية فى الشرق الأوسط لمكافحة الإرهاب وحماية أمن الطاقة. مع لجم الانشغال المستمر بحروب الشرق الأوسط، وتحجيم التموضع العسكرى الضخم فى مناطق النزاعات القديمة، توطئة لإعادة توجيهه نحو شرق آسيا. علاوة على ذلك، أكدت واشنطن التزامها بحماية الحلفاء الآسيويين، وتعميق الشراكات الاستراتيجية معهم، وتشجيع الدول الآسيوية على رفض الخضوع للهيمنة الصينية. وعلى إثر اندلاع الحرب الروسية ـــــ الأوكرانية عام 2022، عاودت أوروبا تصدر أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، فيما حل الشرق الأوسط تالياً عقب واقعة السابع من أكتوبر 2023.


جددت استراتيجية ترامب الجديدة للأمن القومى التأكيد على المصالح الأمريكية المستدامة فى المنطقة، والمتمثلة فى: منع سيطرة الخصوم على موارد الطاقة، ضمان حرية الملاحة الدولية فى مضيق هرمز والبحر الأحمر، ألا تكون المنطقة منبعا أو حاضنة للإرهاب ضد المصالح أو الأراضى الأمريكية، وحماية أمن إسرائيل. مع التشديد على تحقيق هذه الأهداف دون العودة إلى ما سمّته «حروب بناء الأمة العقيمة، التى تستمر عقودًا». وأشارت الاستراتيجية إلى وجود مصلحة أمريكية فى توسيع اتفاقات السلام الإبراهيمى لتشمل المزيد من الدول العربية والإسلامية، وعكست رغبة ترامب فى بقاء بلاده قوة مهيمنة على الشرق الأوسط، بغير تورط عسكرى ضخم أو مباشر.


أثارت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة استياءً استراتيجيًا بالغًا فى الأوساط الأوروبية. فلقد ارتأى المستشار الألماني، فريدريش ميرتس، أن بعض محتوياتها غير مقبولة أوربيًا. وردًا على اتهامها القارة العجوز بمواجهة «محو حضارى» يستوجب لجم سياسات الهجرة، وصفتها وزيرة الدولة للجيوش الفرنسية، أليس روفو، التى شغلت سابقًا منصب نائب مستشار الرئيس ماكرون للأمن القومى، بأنها «تفسير بالغ القسوة" للأيديولوجية الأمريكية. فيما جدد وزير الخارجية الفرنسى، جان نويل بارو، دعوة بلاده الأوروبيين إلى الاستجابة لندائها، الذى أطلقته منذ عام 2017، والمتعلق بضرورة تعزيز «الاستقلال الاستراتيجى» الأوروبى لمجابهة استراتيجية الأمن القومى الأمريكية، التى تعطى الأولوية للأمريكتين على حساب الشرق الأوسط، فيما تنذر بأفول القارة العجوز.


كان ملفتًا عدم استدعاء استراتيجية ترامب الجديدة للأمن القومى أى ردود أو تعليقات رسمية واضحة من دول المنطقة، لا سيما العربية والإسلامية منها، رغم تأكيدها انحسار الانشغال الأمريكى بها. وقبل أسابيع، أصدر مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن والمتخصص فى شئون الشرق الأوسط، مؤلفه المعنون: «الشرق الأوسط الأمريكى.. دمار منطقة». أورد فيه أن سياسات الولايات المتحدة حيال المنطقة، على مدى عقود، تَشى أنها لا تُولى حياة العرب أو المسلمين أهمية تُضاهى حياة الأمريكيين أو الإسرائيليين، حيث تنظر إليهم باعتبارهم مشكلات يجب حلها، جماهير ينبغى التلاعب بها، موارد يتعين اقتناصها، وقضايا تجب دراستها، لا كأناس يُعاملون كبشر متساوين تمامًا لهم حقوق وأحلام وآمال ومخاوف. كما خلص إلى أن الموقف الأمريكى حيال العدوان الإسرائيلى على غزة لا يشكل حالة استثنائية فى السياسة الأمريكية بقدر ما يعكس جوهر تلك السياسة وحقيقتها، فلقد ظلت طيلة عقود أهم بواعث التوتر والتأزم الدائمين فى منطقة الشرق الأوسط.

التعليقات