فى تناقضٍ فادح مع القوانين والأعراف والمواثيق الدولية؛ تأبى دولة الاحتلال الإسرائيلى إلا الاعتصام بنظرية «الحدود الآمنة»، تلك التى تتأتى من التمدد التوسعى الجيوسياسى عبر اقتضام أراضى الدول المجاورة، وترحيل الحدود داخل عمقها؛ بما يتيح لجيش الاحتلال زمنًا كافيًا للتأهب بغية التصدى لأى هجوم محتمل. وبينما استهل الإسرائيليون، فعليًا، تطبيق نظريتهم الوهمية إثر حرب يونيو 1967؛ لم يَثنِهم انخراطهم القسرى فى مسار التسوية السلمية عن التشبث بها، أملًا فى اقتناص نصيب الأسد من المغانم الجيوستراتيجية أثناء المفاوضات.
رغم خفوتها بحلول نهاية ثمانينيات القرن الماضى، استدعت دولة الاحتلال الإسرائيلى، مطلع القرن الجارى، أسطورة «الحدود الآمنة» بكل ما تنطوى عليه من مناطق عازلة وجدران فاصلة على مختلف الاتجاهات الاستراتيجية. ففى الأراضى الفلسطينية، شرعت منذ العام 2002 فى إحياء مقترح زئيف جابوتنسكى بشأن «الجدار الحديدى»، ذلك الذى ينشد استكمال المشروع الصهيونى على أرض فلسطين، خلف جدار فولاذى يعجز السكان العرب عن أن يظهروه أو ينقبوه. وفى هذا السياق، انبرت الحكومات المتعاقبة فى اعتماد استراتيجية «الجدران العازلة»، التى استهلتها بتشييد جدار فصل عنصرى يقتضم المزيد من أراضى الفلسطينيين بالضفة الغربية، حتى أصدرت كل من محكمة العدل الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة، فى يوليو 2004، توصيتين بعدم شرعيته.
متوسلة تقويض المبدأ الدبلوماسى والقانونى المعروف باسم «حدود الرابع من يونيو 1967»، التى رسمتها اتفاقية الهدنة مع دول الطوق عام 1949، ونشأت على إثرها مصطلحات من قبيل «الأراضى الفلسطينية» و«عرب 1948»؛ هرع المسئولون الإسرائيليون يؤكدون أن الحدود الآمنة ستظل ركنًا ركينًا لأية مفاوضات أو اتفاقات سلام مع محيطهم. ومؤخرًا، أثارت تسريبات إسرائيلية بشأن خطة لإعادة إعمار شطر غزة الذى يسيطر عليه جيش الاحتلال خلف ما بات يُعرف بـ«الخط الأصفر»، الذى كان مقررًا انسحابه إليه إبان المرحلة الأولى من الاتفاق؛ مخاوف دولية من أن يشطر القطاع إلى كيانين منفصلين. حتى إن تحذيرات عسكرية ودبلوماسية مصرية أظهرت نية إسرائيلية مبيتة لتثبيت هذا الوضع المؤقت، وتحويل «الخط الأصفر» إلى «جدار برلين» القرن الحادى والعشرين.
بدورها، أفادت صحيفة «ذا جارديان» البريطانية بأن الجيش الأمريكى يخطط لتقسيم غزة إلى «منطقة خضراء» تشكل 53% من القطاع، وتديرها قوات إسرائيلية بالتعاون مع قوات دولية، وستتلقى الدعم الدولى لتمويل مشاريع إعادة الإعمار داخلها. و«منطقة حمراء» فى غرب القطاع تستوعب أكثر من مليونى فلسطينى يكابدون انعدام الأمن الغذائى، ويعيشون على المساعدات وسط الصقيع والجوع والركام والذخائر غير المنفجرة، دونما خطط لإعادة الإعمار. وبذريعة نزع سلاح حماس وتفكيك بنيتها العسكرية، لن يتورع جيش الاحتلال عن الاستيلاء على مناطق داخل ذلك الشطر لتوسيع ما يسميه «المنطقة الأمنية» وسط القطاع. وأكدت مصادر حمساوية أن جيش الاحتلال يرتكب خرقًا فاضحًا بإزاحته اليومية للخط الأصفر باتجاه الغرب، بما يناقض الخرائط المنصوص عليها باتفاق وقف الحرب، كما يخلف نزوحًا جماعيًا للفلسطينيين الذين يطالب جيش الاحتلال بعدم السماح بعودتهم للمنطقة العازلة، التى أقامها على طول حدود القطاع منذ بدء العدوان.
بتمزيقها غزة إلى كيانين منفصلين، لا تتوخى إسرائيل احتواء حماس ونزع سلاحها أو إعادة ضبط الأمن بالقطاع؛ بقدر ما تخطط لإعادة رسم خريطة غزة سياسيًا وديموغرافيًا؛ بما يقوض الإمكانية التاريخية لإرساء مشروع وطنى فلسطينى موحد. كما يحول دون إقامة دولة فلسطينية؛ عبر تكريس الانفصال الجغرافى والديموغرافى والإدارى بين أراضيها المقترحة المتمثلة فى قطاع غزة والضفة الغربية والقدس.
بعيد سويعات من سقوط نظام بشار الأسد يوم الثامن من ديسمبر 2024، شن جيش الاحتلال عملية عسكرية منسقة داخل سوريا، باسم «سهم باشان»، توغل على إثرها داخل القنيطرة وجبل الشيخ، وسيطر على المنطقة العازلة الحدودية التى رسمها اتفاق وقف إطلاق النار عام 1974. وتذرع نتنياهو بإنشاء منطقة أمنية عازلة بين الأراضى السورية وهضبة الجولان المحتلة، تمتد إلى ما وراء المنطقة العازلة وما يسميه «البنية التحتية الإرهابية»؛ لمنع تهريب الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله اللبنانى عبر سوريا.
وتبلغ مساحة تلك الأراضى 250 كيلومترًا مربعًا، تمتد عبر محافظات القنيطرة وريف دمشق ودرعا. وأكدت القناة 14 العبرية استحالة انسحاب جيش الاحتلال من هذه المناطق، ملوّحة بإمكانية إبرام اتفاقات أمنية لحماية دروز سوريا وتوفير الأمن لسكان شمال إسرائيل. وإبان حفل تخريج عسكرى فى فبراير الماضى، ثم زيارته المستفزة مؤخرًا للمناطق السورية التى يحتلها جيشه خلف حدود اتفاق فض الاشتباك، جدد نتنياهو التأكيد على احتفاظ جيش الاحتلال بتموضعه داخل سوريا كإجراء دفاعى، وعدم سماحه لهيئة تحرير الشام أو الجيش السورى الجديد بدخول الأراضى الواقعة جنوب دمشق، واضطلاعه بمهمة «القوة التنفيذية» التى ستنزع سلاح محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء.
يفتأ جيش الاحتلال يباشر إجراءاته التصعيدية العدوانية فى جنوب لبنان، على شاكلة تعزيز الحاجز المادى بطول الحدود الشمالية؛ تزامنًا مع استمرار احتلال خمس تلال استراتيجية. الأمر الذى يشكل انتهاكًا سافرًا لقرار مجلس الأمن رقم 1701 لعام 2006، واتفاق وقف الأعمال العدائية فى نوفمبر 2024، كما لسيادة لبنان وسلامة أراضيه. وقد أكدت نتائج مسح أجرته قوات الأمم المتحدة المؤقتة «اليونيفيل» شروع جيش الاحتلال، منذ أكتوبر الماضى، فى بناء جدار خرسانى عازل بعمق كيلومترين داخل الأراضى اللبنانية. ومن جانبها، اعتبرته إسرائيل ركنًا فى خطة أوسع نطاقًا بدأت تنفيذها عام 2022 لتأمين البلدات والمستوطنات الحدودية من هجمات «قوة الرضوان» التابعة لـ«حزب الله»، ومنع التسلل إلى داخل إسرائيل؛ علاوة على تعزيز الحاجز الفيزيائى لحماية قواتها المنتشرة بالمنطقة.
أما اللبنانيون، فيرونه تعديًا على سيادتهم؛ حيث يتجاوز الخط الأزرق الذى تم ترسيمه بعد الانسحاب الإسرائيلى عام 2000، وهو خط لوقف إطلاق النار وليس حدودًا دولية. كما يمنع السكان المحليين من الوصول إلى مساحة تفوق أربعة آلاف متر مربع من الأراضى اللبنانية. وبينما طالبت «اليونيفيل» جيش الاحتلال بإزالة ذلك الجدار الأسمنتى، كلفت الدولة اللبنانية بعثتها الدائمة لدى الأمم المتحدة برفع شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن ضد إسرائيل لإقدامها على بنائه داخل أراضٍ لبنانية.
أرجعت دراسة نشرها معهد «ستراتفور» الأمريكى للدراسات الاستخباراتية، مؤخرًا، رفض الإسرائيليين العودة لما وراء حدود الرابع من يونيو 1967 إلى اعتبارهم إياها ارتدادًا إلى حدود اتفاقية الهدنة لعام 1949، بما يعرض دولتهم لتهديد وجودى. ومن رحم ذلك التصور الاستراتيجى انبلج مصطلح «الحدود الآمنة». فلقد منحت نتائج حرب 1967 إسرائيل الفرصة لاحتلال كامل التراب الفلسطينى وسيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية، ما خول القوات الإسرائيلية مزايا استراتيجية هائلة، إذ أبقت القوات المصرية غرب القناة، وجنبت الإسرائيليين تهديدات المدفعية الأردنية والسورية، كما أتاح لهم فضاء أوسع للمناورة التكتيكية داخل العمق الاستراتيجى لإعادة حشد القوات وشن هجوم مضاد.
وعقب حرب 1973، استقر فى الوجدان الإسرائيلى مبدأ الخط الدفاعى الاستراتيجى وفق حدود ما بعد الرابع من يونيو 1967، استنادًا إلى مبادئ استراتيجية تتقاطع مع فكرة الدولة الدينية التوراتية، أبرزها: أن إبرام اتفاقيات سلام أو تطبيع مع العرب لن يضمن إنهاء الحروب معهم. بينما يفضى قيام دولة فلسطينية إلى إبقاء إسرائيل بمرمى تهديد صاروخى من مسافات قريبة، كما يفقدها الكتل الاستيطانية بالضفة الغربية، ويحرمها العمق الاستراتيجى وقدرة الردع الاستباقى إزاء الحروب غير المتماثلة التى تشنها الفصائل المسلحة المناهضة لها.
ما كان لحدود أن تغدو آمنة لولا التزام الدول عدم تغييرها بالقوة، وتعهدها احترام سيادة بعضها البعض، وعدم التدخل فى شئونها الداخلية. ولطالما حذرت دوائر استخباراتية إسرائيلية من تداعيات «متلازمة السياج»؛ حيث تتآكل الجدوى الأمنية للاعتماد المفرط على الجدران الفاصلة والمناطق العازلة والحدود المرنة. فقد تفاقم عزلة إسرائيل وتخلف أضرارًا بيئية ونفسية مروعة، كما تُقوض الإبداع الاستراتيجى والمرونة العملياتية. ورغم ذلك، لا يتورع وزير الحرب عن تأكيد تمسك الحكومة اليمينية المتطرفة بنظرية الحدود الآمنة، مجددًا رفض جيش الاحتلال الانسحاب من الأراضى التى اقتضمها مؤخرًا فى كل من سوريا ولبنان وغزة، ومشددًا على ضرورة حصر تطلعات أية مفاوضات بين ثلاثتهم ودولة الاحتلال فى التماس اتفاقات أمنية تكرس هذا الوضع، دون إدراك معاهدات سلام أو تطبيع على أساس مبدأ «الأرض مقابل السلام».