استعصاء التحوُّل الأخضر - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الإثنين 29 ديسمبر 2025 8:27 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

بعد تأهل المنتخب لدور الـ16.. تؤيد خوض مباراة أنجولا بـ:

استعصاء التحوُّل الأخضر

نشر فى : الإثنين 29 ديسمبر 2025 - 5:40 م | آخر تحديث : الإثنين 29 ديسمبر 2025 - 5:40 م

رغم انطلاقتها الطموحة قبل بضع سنين مضت، تصطدم مسيرة التحول العالمى نحو اقتصاد أخضر، مرن ومستدام، عبر انتقال تدريجى من الوقود الأحفورى إلى الطاقة المتجددة، بتحديات جسام. حتى إن صحيفة «الفايننشال تايمز» البريطانية نشرت مؤخرًا تحقيقًا مطولًا بعنوان: «نهاية تحول الطاقة»، استشهدت فيه بعودة كبريات شركات الطاقة العالمية إلى التهافت على استثمارات النفط والغاز. وفى نوفمبر الماضى، أقرت الدورة الثلاثون لمؤتمر الأطراف «كوب 30»، المنعقد بمدينة بيليم البرازيلية، بتواضع الإنجاز المتعلق بصياغة خطط تنفيذية ناجزة لتقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري، ومكافحة إزالة الغابات، والتمويل والتكيف مع التغيرات المناخية، وعدم تجاوز الهدف المنصوص عليه باتفاقية باريس المناخية لعام 2015، لجهة الحد من الاحترار العالمى بواقع 1.5 درجة مئوية.

 


تتراءى أبرز مظاهر انتكاسة مسيرة التحول الأخضر فى تعاظم استخدام الوقود الأحفورى، رغم سنوات من الرهان على ولوج عصر الطاقة النظيفة. حيث تشير أحدث التقديرات الدولية إلى أن الطلب العالمى على الفحم والنفط والغاز سيواصل الارتفاع خلال العقود المقبلة، مدفوعًا بعوامل ديمغرافية واقتصادية وتكنولوجية متسارعة. ذلك أن النمو الهائل فى التوجه نحو طاقة الرياح والطاقة الشمسية لم يُترجم إلى انخفاض ملموس فى الطلب على الموارد الهيدروكربونية، التى توقعت الوكالة الدولية للطاقة استمرار الطلب عليها حتى عام 2050، مع تفاقم الطلب على النفط الصخرى، باعتباره مصدرًا أكثر مرونة وأقل انبعاثًا للغازات الملوِّثة مقارنة بأنواع الوقود الأحفورى الأخرى. كذلك، بلغ استهلاك الفحم مستويات غير مسبوقة، بإجمالى إنتاج 8.85 مليار طن عام 2025، بارتفاع قدره 0.5% عن مستويات 2024 القياسية. وتشير توقعات وكالة الطاقة الدولية إلى تصدر الوقود الأحفورى مزيج الطاقة العالمى بنسبة 80% حتى منتصف القرن الحالى على الأقل، بجريرة ارتفاع الطلب العالمى على الطاقة بنسبة تصل إلى 15% خلال السنوات العشر المقبلة. وتلك مفارقة تعكس اتساع الفجوة بين الطموحات المناخية والاقتصاد السياسى للطاقة.
علاوة على النمو السكانى، وتوسع النشاط الصناعى، وزيادة مستويات التحضر، وكهربة المبانى والمركبات، تعود أسباب تعثر التحول الأخضر إلى حزمة عوامل، أهمها تفاقم الاستثمار فى مجال الذكاء الاصطناعى، الذى يتطلب كهرباء هائلة لتشغيل مراكز البيانات وشبكات الحوسبة المتقدمة. إذ تتوقع وكالة الطاقة الدولية تجاوز الإنفاق السنوى العالمى على توليد الكهرباء المخصصة لتشغيلها نحو 540 مليار دولار، كونها تستهلك كهرباء تعادل استهلاك ألمانيا أو فرنسا، فيما ستعادل بحلول عام 2030 استهلاك الهند، ثالث أكبر مستهلك للكهرباء عالميًا، بينما سيتجاوز استهلاكها استهلاك السيارات الكهربائية بمرتين ونصف مع نهاية العقد الحالى. ولن يتسنى للطاقة المتجددة وحدها تلبية ذلك الطلب المتعاظم على كهرباء قابلة للتوزيع، متوافرة عند الطلب، على مدار الساعة، مثلما تتيح محطات الطاقة العاملة بالغاز والفحم والمفاعلات النووية. وبينما يتضاعف طلب شركات الذكاء الاصطناعى على الكهرباء، يتعذر على شركات الكهرباء بناء محطات تفى بالطلب المتزايد لأسباب يتعلق بعضها بالتراخيص والقوانين والتمويل، فيما يتصل بعضها الآخر بالبنية التحتية. فى حين تحتاج شركات تصنيع توربينات الغاز سنوات لتوفير المزيد منها، وتتطلب مشاريع الطاقة النووية الجديدة سنين عدًّا حتى تؤتى أكلها.
استمرار ارتفاع كلفة الطاقة المتجددة: لا تزال معضلة تخزين الطاقة المتجددة على مستوى شبكات الكهرباء تنتظر ابتكار تقنيات تخزين قوية وطويلة الأمد، لضمان استقرار الشبكات وموثوقيتها. ورغم تأكيد تقرير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا» أنها كانت المصدر الأرخص للكهرباء، متفوقة على الوقود الأحفورى بنسبة 50% عام 2024، تبرز ضغوط تكلفة إضافية قصيرة الأجل، جراء الحروب التجارية، والتوترات الجيوسياسية، واضطراب الأسعار، وتأخير التصاريح، ومحدودية سعة الشبكة، وارتفاع تكاليف أنظمة التشغيل. وفى الدول النامية، تؤدى أسعار الفائدة المرتفعة والمخاطر المتصوَّرة للمستثمرين إلى تضخم التكلفة المستقرة للكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة. وبينما تبدو تكلفة بناء المشاريع معقولة، تبقى «تكاليف التكامل» عقبة كأداء، حيث يطول انتظار ربط الشبكة أو يتعطل بسبب بطء إصدار التصاريح. وتشير أحدث المؤشرات إلى أن عام 2026 قد يشهد انحسارًا ملموسًا فى إنتاج الطاقة الشمسية عالميًا، بسبب ارتفاع تكاليف المواد الخام، والقيود اللوجستية، وتأثيرات السياسات المناخية والاقتصادية، ما يطرح تساؤلات حول استدامة وتيرة الانتقال الطاقى.
انحسار الاستثمار فى الطاقة النووية: حيث يحذر خبراء من أن الطاقة النووية، التى تُعد إحدى الركائز الأساسية فى مسار التحول العالمى نحو مصادر طاقة موثوقة ومستقرة ومنخفضة الانبعاثات وذات قدرة إنتاجية عالية، ستكابد تحديات خلال السنوات المقبلة، نتيجة التآكل المستمر فى مستويات الاستثمار، سواء لجهة تدشين محطات جديدة أو تحديث البنية التحتية القائمة. وفى وقت تُظهر السياسات المناخية العالمية طموحًا متزايدًا نحو الحياد الكربوني، يشكل نقص التمويل، وانحسار الاستثمار، وتقادم المحطات، وتعطل المشاريع، عقبات جوهرية تهدد مستقبل الطاقة النووية وتحد من قدرتها على الإسهام الفعّال فى تحقيق المستهدفات المناخية. ويرجح معنيون تراجع حصتها فى توليد الكهرباء عالميًا عن نسبة 9% المسجلة عام 2024.
فتور حماس شركات الطاقة حيال التحول الأخضر: فرغم الضغوط الهائلة التى تعرضت لها بغية التحول من الاستثمار فى النفط والغاز صوب الطاقة المتجددة، أدركت شركات الطاقة خلال العامين الأخيرين إضرار تلك الاستراتيجية بها وبمساهميها، ما اضطرها إلى معاودة التركيز على نشاطها الأصلى فى النفط والغاز. فعلى وقع حرب أوكرانيا، أدى الحظر الغربى على استيراد النفط والغاز من روسيا إلى تنامى الطلب على الوقود الأحفورى. وبينما كانت تتسابق شركات الطاقة الكبرى نحو التحول الأخضر، انبرت نظيراتها الأمريكية فى مضاعفة إنتاج النفط والغاز، حتى أضحت الولايات المتحدة أكبر منتج عالمى للنفط بنحو 13 مليون برميل يوميًا، كما أضحت من أكبر مصدريه بعدما زادت صادراتها إلى نحو 4 ملايين برميل يوميًا. وزادت الشركات الأمريكية أيضًا من إنتاج الغاز والغاز المسال، الذى تصدرت قائمة مصدريه، حتى جنت أرباحًا طائلة جراء بيعه بكميات هائلة إلى أوروبا لتعويض غياب الغاز الروسى. واليوم، تتجه المفوضية الأوروبية إلى إلغاء الحظر الذى فرضته قبل ثلاث سنوات على استعمال محركات الاحتراق الداخلى اعتبارًا من عام 2035، مع إقرار استثناءات تكتفى بتخفيض انبعاثات ثانى أكسيد الكربون بنسبة تصل إلى 90% فقط بدلًا من 100% مقارنة بالسنة المرجعية 2021، الأمر الذى يشرعن مواصلة الاعتماد المفرط على النفط والغاز.
سياسات الطاقة الترمبية: منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة للمرة الأولى مطلع عام 2017، فرض ترامب أجندته الخاصة بالتوسع فى إنتاج الوقود الأحفورى وتقويض سياسات التحول الأخضر. فبعيد سويعات من تنصيبه، أعلن الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ. وفى ذات العام، نظم فعالية لتسويق مفهوم «الوقود الأحفورى الأنظف والأكثر كفاءة» إلى جانب الطاقة النووية، فى محاولة لتعزيز دور الهيدروكربونات خلال المرحلة الانتقالية. كما عارض الضريبة العالمية المقترحة على انبعاثات الشحن، التى كانت بمثابة أول ضريبة كربون ثابتة. وبموازاة شعار «أمريكا أولًا»، أطلق نداء «احفر يا عزيزى احفر» لتحقيق الاكتفاء الذاتى من الوقود الأحفورى المحلى والتوسع فى تصديره، مع تقليص وتهميش سياسة دعم الطاقة المستدامة. ودعمًا منه لصناعة الفحم الحجرى، تجاهل «قانون تخفيض التضخم» الذى شرَّعه الكونجرس أثناء ولاية بايدن فى أغسطس 2022 لتنفيذ مشاريع الطاقة المستدامة. وبذلك غدت مصادر الوقود الأحفورى الثلاثة تشكل أسس «موارد الطاقة الداخلية الأمريكية» فى الوقت الراهن، معتمدةً على النجاح الاقتصادى الباهر لصناعة النفط الصخرى منذ 2014، التى وضعت الولايات المتحدة على رأس قائمة منتجى ومصدرى النفط والغاز عالميًا. أما سياسات التحول نحو الطاقات المستدامة فى عهد ترامب فقد شهدت انكماشًا واضحًا، تمثل فى إلغاء مشاريع تحت الإنشاء ورفض أخرى مقترحة. فقبل قليل، أعلنت وزارة الداخلية تعليق جميع مشاريع طاقة الرياح البحرية بذريعة مخاوف تتصل بالأمن القومى. وتعكس تلك التحركات رؤية ترامب الرامية إلى إدراك «الهيمنة الطاقوية» عبر التوسع فى استثمارات الوقود الأحفورى، مع تجاهل الجهود الدولية لمكافحة تغير المناخ، التى يعتبرها محض «خدعة بيئية».
تسييس التحول الطاقى: حيث لم تسلم سياسات المناخ والتحول الأخضر من السقوط فى إسار تنافس القوى العظمى حول الهيمنة. فعبر تلك السياسات حاول الغرب إعاقة الصعود الصينى المتسارع والتحكم باقتصادات الدول الناشئة والنامية، ما أدى إلى تقهقر استراتيجيات التغير الطاقى لدى الغرب، ومن ثم تنامى الطلب على الهيدروكربونات. وبينما يسعى الغرب إلى تسريع البحث عن بدائل للموارد النادرة التى تتحكم بكين فى سلاسل توريدها، تشكل السياسات البيئية والطاقوية الخضراء عقبة كأداء أمام سياسات التعدين وتطوير المناجم فى الدول الغربية. أما الصين فقد نجحت فى إحكام سيطرتها على المعادن والمكونات التى تعتمد عليها سياسات التحول الطاقى. فى المقابل، انبرى الغرب فى حرب تجارية شرسة ضد الصين، قابلتها الأخيرة بتقييد تصدير المعادن النادرة إلى الدول الغربية، ما ينذر بإرباك صناعاتها الإلكترونية والتكنولوجية، ويهدد بتوقف كثير من مصانع السيارات الكهربائية وخطوط إنتاج الألواح الشمسية أو توربينات عنفات الرياح بتلك الدول.
عقب اندلاع حرب أوكرانيا عام 2022، وما استتبعته من حظر غربى على صادرات الطاقة الروسية، هرعت الشركات النفطية الروسية إلى إيجاد أسواق جديدة لهيدروكربوناتها المحظورة. فطرقت أبواب شركات التكرير الخاصة الصينية والهندية، وقدمت تخفيضات عالية للنفط الخام والغاز الروسيين لتحفيز تصديرهما إلى الدولتين الآسيويتين الكبريين عبر شبكة ناقلات قديمة. وبينما تجاوزت صادرات الغاز الروسى إلى الصين عبر خط أنابيب «قوة سيبيريا-1» 38.7 مليار متر مكعب هذا العام، ارتفاعًا من 31 مليار متر مكعب عام 2024، متجاوزة الطاقة السنوية المقررة للخط البالغة 38 مليار متر مكعب، ما برحت أوروبا تصارع معضلتين أساسيتين. تتمثل أولاهما فى عجز الطاقات المستدامة عن توفير الإمدادات الطاقوية الملحّة بنفس سرعة وكفاءة وكفاية الموارد الهيدروكربونية. أما ثانيتهما فتتجلى فى صعوبة إيجاد إمدادات بديلة للغاز الطبيعى الروسى دون تحمل نفقات مالية باهظة، سواء لجهة فارق الأسعار أو بخصوص كلفة تشييد بنى تحتية طاقوية جديدة، تتضمن مد خطوط أنابيب لاستقبال غاز طبيعى من وجهات غير روسية، أو بناء محطات إعادة تغويز الغاز المسال المستورد بأسعار مضاعفة من الولايات المتحدة ومشارب أخرى.
استمرار اعتماد الجيوش على الوقود الأحفورى: إذ تلتمس جيوش عديدة مصادر طاقة مرنة وموثوقة وغير تقليدية لبلوغ غايات استراتيجية حيوية، كمثل مواجهة التحديات الميدانية، وتعزيز مرونة سلاسل الإمداد، ودعم الاستدامة البيئية، ورفع الكفاءة التشغيلية، والتوسع فى استخدام الطائرات المسيّرة، والأسلحة الموجهة بالليزر، والأنظمة غير المأهولة، والتحول نحو كهربة المركبات العسكرية لخفض البصمة الكربونية وتقليل الضوضاء الحرارية، بما يخدم مهام الاستطلاع والتخفى. لذلك انطلقت مبادرات عالمية لخفض الانبعاثات الغازية الضارة بالقطاع العسكرى، كمثل «الجيش الأخضر» بالاتحاد الأوروبى، و«برامج الطاقة الذكية» للناتو، و«استراتيجية المناخ بالجيش الأمريكى لعام 2050». ورغم ذلك، لا يزال الوقود الأحفورى يشكل مصدر الطاقة الرئيس لدى جل جيوش العالم، فيما سيظل الانتقال نحو الطاقة الخضراء العسكرية رهنًا باعتبارات التمويل، والبنية التحتية، وتوافر المعادن، والنضج التكنولوجى، والحماية من التهديدات السيبرانية. كما أن مزيج الطاقة المستقبلى للجيوش سيتحدد عبر إجراء موازنة دقيقة ما بين الكفاءة والمرونة والموثوقية، مع الأخذ فى الاعتبار خصوصيات كل جيش على المستويات السياسية والتشريعية والتكنولوجية.

التعليقات