فرح المصريون.. غنوا ورقصوا ابتهاجا بافتتاح المتحف المصرى الكبير، تزينت صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعى بصور معالجة بالذكاء الاصطناعى يرتدون فيها أزياء فرعونية، استدعاء لإرث أجدادهم المصريين القدماء، وما تركوه من آثار حيرت العالم شرقه وغربه، أمام الدقة الهندسية للأهرامات والإبداع الفنى لتماثيل قدت من حجر، وأخرى من ذهب وفضة.
وفى خضم لحظة من الفخر بإنجاز استغرق 20 عاما قبل افتتاحه، زحفت جموع المصريين بالآلاف إلى المتحف الكبير، رغبة فى الفوز بزيارة تبقى لسنوات مقبلة فى ذاكرة أجيال جديدة تبحث عن معنى وقيمة تفتح لها أبواب الأمل فى غد أفضل، وأن تنهل قدرا من الطاقة الإيجابية الكامنة فيما يحتويه المتحف من كنوز.
فجأة تكهرب الجو، وخيمت على الفرح المنصوب أجواء غير مريحة، فأمام التدفق، غير المتوقع، من الزوار المصريين فى اليوم الأول لافتتاح المتحف أمام الجمهور(4 نوفمبر)، اختلط الحابل بالنابل، وبدت إدارة المتحف عاجزة عن استيعاب هذا الكم الهائل من الزوار، والزحام وما نتج عنه من بعض التصرفات السلبية التى أثرت على الصورة الجميلة لحفل الافتتاح الرسمى فى الأول من نوفمبر.
هنا سارعت إدارة المتحف، بعد تخطى السعة التشغيلية الكاملة المقررة (الجمعة 7 نوفمبر) إلى إيقاف بيع التذاكر فى ذلك اليوم، وقررت، وفق بيان رسمى، إلى قصر حجز وشراء تذاكر الزيارة لليوم التالى، وأيام العطلات الرسمية ونهايات الأسبوع (الجمعة والسبت) على الموقع الإلكترونى الرسمى للمتحف فقط. ثم عادت إدارة المتحف، فى بيان جديد، لتعلن عن تطبيق نظام الحجز المسبق وفق مواعيد زمنية محددة لتذاكر الدخول، اعتبارا من الأحد 16 نوفمبر، واعتماد الحجز الإلكترونى الحصرى لتذاكر الزيارة طوال أيام الأسبوع، اعتبارا من 1 ديسمبر 2025، مع وقف بيع التذاكر عبر منافذ البيع المباشر حتى إشعار آخر.
الأمر لم يقف عند هذا الحد بعد تداول أحد المواقع الإخبارية معلومات، قبل حذفها لاحقا، عن اتجاه المتحف لخفض نسبة التذاكر المتاحة للمصريين إلى 20% مقابل 80% للعرب والأجانب، وعزز من هذا الفهم، كلام عن خطة تسويق تقوم على زيادة أعداد الزوار الأجانب الذين يتراوح أسعار التذاكر للفرد منهم ما بين 370 و1450 جنيها مقابل 100 إلى 200 جنيه للمصريين.
وهو ما اعتبرته الدكتورة مونيكا حنا، أستاذ مساعد الآثار والتراث التقافى، خلال حديث دار بيننا، سابقة خطيرة جدا لأنه يحول التراث من «حق» للمصريين لـ«سلعة» بنبيعها للسياح.
وعلى الرغم من نفى إدارة المتحف الكبير وجود أى توجه لخفض أعداد الزوار المصريين إلى 20%، قالت الدكتورة مونيكا، إنها ومن خلال تجربة شخصية على موقع الحجز (نهاية الأسبوع الماضى) كان الحجز للمصريين لا يزال غير متوافر.
لكن الدكتور أحمد غنيم، الرئيس التنفيذى لهيئة المتحف المصرى الكبير وفى تصريح للزميل إسلام عبد المعبود، محرر ملف الآثار بالشروق، أرجع توقف نظام الحجز الإلكترونى فى بعض الأحيان إلى بلوغ السعة القصوى للمتحف، خاصة خلال أيام العطلات الرسمية التى تشهد إقبالا مرتفعا من الزوار.
أعود للدكتورة مونيكا حنا التى تقود حملة واسعة لاستعادة رأس الملكة نفرتيتى من متحف برلين، حيث تبدى مخاوفها من الرسائل السلبية التى قد تصل للناس، فى الوقت الذى يسعى فيه الكل إلى ربط المصريين بتاريخهم، و«كسر حالة الانفصال القديمة التى ترسخت بسبب 200 سنة من الاحتكار الغربى لعلم المصريات».
لا أحد ضد تحقيق أكبر عائد مادى يعود بالنفع للحفاظ وصيانة المتحف الكبير، وفى الوقت ذاته ضمان زيارة مريحة وتجول آمن لجميع الزوار، مصريين وعربا وأجانب، وأن تحظى مدونة السلوك التى وضعتها إدارة المتحف لهذا الغرض بالاحترام والالتزام بتطبيق بنودها.
والأهم، وهنا اتفق مع الدكتورة مونيكا حنا، تجنب الرسائل التى قد تقلل من حماس المصريين، بكل فئاتهم، للتدفق على المتحف المصرى الكبير، وغيره من المتاحف المنتشرة فى ربوع البلاد، وبما يسهم فى تشكيل الوعى، وإعادة الشخصية المصرية إلى سابق عهدها من توازن وحيوية وثقة فى النفس لمواجهة تحديات ثقال لا يمكن الهروب من استحقاقاتها.