عقب ظهور مؤشرات نتائج المرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب، صعد قيادى بأحد أحزاب الموالاة إلى منصة مؤتمر انتخابى ليحتفى بما حققه حزبه من «نجاح باهر» فى تلك الجولة، واعتبر أن تلك النتائج دليل على «وعى الشعب المصرى وثقته فى المنظومة»، وعلى «نزاهة العملية الانتخابية التى عبَّرت عن إرادة الجماهير».
وما إن استخدم الرئيس عبد الفتاح السيسى الـ«فيتو» اعتراضا على ما جرى فى تلك الجولة من مخالفات وتجاوزات، وما أعقب ذلك من قرار الهيئة الوطنية للانتخابات بإلغاء نتائج 19 دائرة انتخابية، ثم إبطال «الإدراية العليا» نتائج 29 دائرة أخرى بعدما ثبت لهيئتها «حدوث عمليات تسويد وشراء أصوات وتداول بطاقات اقتراع خارج مقار اللجان»، عاد هذا القيادى ليؤكد أن حزبه «جاهز للجولات التالية»، وأن الانتخابات «يجب أن تعبر بشكل حقيقى عن إرادة الشعب المصرى».
جرت جولة انتخابات الدوائر الملغاة، وجاءت الرياح بما لا تشتهى سفن هذا الرجل وحزبه، فوفقا للحصر العددى خسر حزبه والأحزاب المتحالفة معه معظم المقاعد التى حسموها فى الجولة الأولى، وكان لافتا التراجع الكبير فى الأصوات التى حصل عليها مرشحو تلك الأحزاب فى الجولة الأولى وما أحرزوه فى الجولة الأخيرة.
هذا التراجع الفادح سواء فى عدد المقاعد أو فى الأصوات يثبت أن ما أشار إليه الرئيس فى بيانه ووثقته «الإدارية العليا» فى حيثيات أحكامها عن تجاوزات وتزوير وشراء أصوات، كان عملية ممنهجة، وليس مجرد وقائع فردية فى بعض الدوائر.
وكما عزفت غالبية الشعب عن المشاركة فى الجولات السابقة ــ بحسب الأرقام المعلنة ــ عزفت بنسبة أكبر فى الجولة الأخيرة، ومن قرر النزول اختار أن يعاقب مرشحى الأحزاب التى تماهى نوابها مع الحكومة فمرروا قوانينها وأيدوا سياساتها وانحازوا لها بدلا من الشعب الذى وكَلهم فى الرقابة عليها وعلى باقى مؤسسات الدولة.
تعكس نسب المشاركة المتدنية، التى تباينت ما بين 5% فى بعض الدوائر و25% فى أخرى، حجم الفجوة بين الشارع والعملية الانتخابية، هذه الفجوة وما صاحبها من فقدان ثقة لم تبدأ مع جولات الاقتراع بل منذ بداية عملية هندسة الانتخابات لصالح أحزاب بعينها، حينما تم تجاهل الدعوات التى طالبت بإقرار نظام انتخابى يضمن الحد الأدنى من التنافسية ويحافظ على أصوات الناخبين وينتج مجلسًا نيابيًا تُمثل فيه التيارات السياسية كل حسب نسبته وثقله، فيعبر وبشكل حقيقى عن إرادة الناس.
لم يتغير مزاج الناخب بين الجولة الأولى والجولة الملغاة، ما تغير هو تراجع قدرة تلك الأحزاب على الحشد واستخدام المالى السياسى وارتكاب كل التجاوزات الانتخابية بعد توجيهات الرئيس التى تعاملت معها كل الأطراف باعتبارها قرارا سياديا.
ولما غابت أدوات الحشد التى اعتاد مرشحو تلك الأحزاب على استخدامها، تمكن المستقلون من إقناع بعض الناخبين بالنزول والتصويت لهم، وهو ما يثبت أن العملية الانتخابية لو جرت بالحد الأدنى من النزاهة، لانهارت أحزاب وسقطت تحالفات احتكرت البرلمان لعقد كامل.
صعود المستقلين فى الجولة الأخيرة على حساب مرشحى الموالاة، كما كشف ثقل وحجم تلك الأحزاب فى الشارع، أثبت أيضا أن تغييب السياسة والسياسيين عن المشهد الانتخابى كان جزءًا من الهندسة المسبقة، فوجود مرشحين مسيسين وحزبيين مع هامش حركة وقدر من النزاهة كان سيقلب النتائج رأسا على عقب، كما كان سيفتح الباب أمام بدائل وطروحات سياسية تكشف الحكومة أمام الرأى العام.
الهندسة الصارمة للاستحقاق الانتخابى على نحو ما جرى، دفعت أحزابًا ومرشحين إلى العزوف عن المعركة الانتخابية، وهو ما أدى بالتبعية إلى عزوف النسبة الغالبة من الناخبين، وعندما اطمأن بعضهم أن الجولة الأخيرة قد تتسم بالحد الأدنى من النزاهة نزلوا وصوتوا للمستقلين نكاية فى أحزاب الموالاة.
لن نحظى ببرلمان يعبر عن إرادة الناس ــ كما دعا رئيس الجمهورية ــ، ولا بحياة نيابية سليمة طالما ظلت «الهندسة وفلترة القوائم والمرشحين» هى العقيدة المسيطرة.
إذا كانت السلطة تسعى إلى وضع أسس «جمهورية جديدة»، فهذه الجمهورية يجب أن تقوم على أُسس ديمقراطية تبدأ بالمشاركة والتنوع والتعدد وتصل إلى التنافسية السياسية، بما يتيح للشعب اختيار حُكامه بإرادة حرة واختيار من ينوب عنه فى الرقابة على هؤلاء الحكام، دون ذلك سنظل نحرث فى البحر.