أحلام النهر.. وكوابيسنا! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 27 يوليه 2025 5:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

أحلام النهر.. وكوابيسنا!

نشر فى : السبت 26 يوليه 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : السبت 26 يوليه 2025 - 7:25 م

على حافة الحقيقة والخيال، والواقع والحلم، وفى تلك المسافة بين ما نريد وما يتحقق فعلا، ينسج جار النبى الحلو فى روايته «حلم على نهر»، الصادرة عن دار العين، حكايةً تبدو بسيطة وعادية، ولكنها تُلخّص - لو أمعنتَ النظر - سيرة تغيّرات مصرية كبرى فى القرن العشرين، أعادت تشكيل الأماكن والبشر، وأفسدت حياتنا، تحت لافتة التقدّم ومواكبة العصر.
تبدو لى الرواية اليوم، وقد صار الريف يمتلك مظاهر المدينة وأدوات التكنولوجيا، بينما فقد مادة الحياة وعناصر الطبيعة، وكأننا أمام حلمٍ انتهى إلى مأساة، أو مثل سردٍ يستحضر عالم «ألف ليلة وليلة»، مستخدمًا بعض أدواته، لكى يصل بنا إلى حارة سدّ تشبه حارة بطل الحكاية؛ أى إن الحركة فى هذه الرواية تبدأ من سماء الحلم والخيال، وصولًا إلى أرض الواقع الخَشِن.
كان يمكن أن يختار جار النبى شكلًا واقعيّا بحتًا، وهو قادر على ذلك، لأن تفاصيل الشخصيات والأماكن، وهذا الجو العام، واللون المحلى الفريد من أول النص إلى آخره، كلّ ذلك يكشف عن معرفة وثيقة بمجتمع المحلة الكبرى، المدينة التى يسكنها جار النبى حتى اليوم، ويرفض أن يغادرها، ولعلّ من الأنسب أن نقول إن المحلة الكبرى هى التى تسكن كاتبنا، وليس العكس.
كانت الواقعية المباشرة هى المذهب الأكثر تفضيلًا لدى جيل جار النبى، ينحتون من صخورها الخشنة أعمالهم، ويكتشفون أماكن وشخصيات مهمّشة وغير مرئية، ويسكبون على الورق ما وعته الذاكرة من حكايات.
لكن تجربة «حلم على نهر» تأخذ خطوة أبعد بأن تضع هذا الواقع المباشر فى إطار خيال جذاب وأنيق، وتقدم تغيرات واقع المدينة الصناعية ماضيا وحاضرا فى ثوبٍ من الأسطورة.
فى هذا الاختيار مكر فنى مناسب تمامًا، ليس فقط لأن الكاتب يُجيد هذه المراوحة بين الواقع والخيال، التى تجعل من الحكاية عاشقًا ومعشوقًا، ولكن أيضًا لأن هذا المزيج يُوضّح المسافة الهائلة بين ما كان، وبين ما صرنا إليه.
سأعود إلى هذه النقطة بعد أن أوجز لك حكاية بطلنا سيد، الذى يتخذ سمات استثنائية منذ البداية؛ فهو يكلّم الطير والحيوان، ويخرج له من النهر جنى فوق بغلته، يدفعه إلى تشييد بيت صغير على النهر، على أن يزرع فى حديقة البيت شجرة تمر حنة، لكى يستريح الجنى فوقها.
سيدٌ باذخ القوة والقدرة، وكأنه ورث مهارة الفلاح المصرى عبر العصور، إذ يقوم - بمساعدة رفاقه - ببناء بيته النهرى مرة بالطين، ومرة بالطوب الأحمر، بل وينقل مكان البيت إلى موقع آخر، حتى لا تهدمه جنية تعشش أسفل جدرانه.
ولكن هذا البطل الذى يُذكّرنا بشخصيات «ألف ليلة وليلة»، يغوص بقدمه الأخرى فى الواقع. نحن فى قلب عالم المحلة منذ الحرب العالمية الثانية، بخنادقها، وبهجة الراديو، وأغنيات عبد الوهاب، وصولًا إلى زمنٍ توسّعت فيه المدينة، واختفى قطار الدلتا، وتمّ ردم النهر بدعوى انتشار البلهارسيا فى مياهه.
صاحب الحلم والنهر والجنى، والمُشيِّد المؤمن بالمدنية، الذى يتوقع التوسع والتقدم ويريده، ويسبق إليه ببناء بيته أمام النهر، هذا الذى يرى الغد والمستقبل، والذى جعل من طوب الخندق جدرانًا تحمى حياته العذبة مع زوجته وأولاده، السيد الذى يتفنن فى الخط، ويرسم صور عرابى، وسعد زغلول، وحورية البحر ويبيعها، عاشق الكتب والطبيعة الذى يلخص الشخصية المصرية البناءة، لم يتوقع أبدًا أن تكون المدنية بردم النهر، ولم يستوعب أن يكون مستقبل المحلة مسخا مشوها.
كان سيد يعرف مشكلات مدينته الريفية، يكره القذارة والفوضى والمرض والجهل، يحلم أن ينتهى كل ذلك، يريد مجتمعا جديدا، ولكنه وجد كابوسا أعاده مغتربا فى شيخوخته، يُحدّث أحفاده عن ذلك الجنى الذى خرج له من الماء فوق بغلته، يحمل أحلامه الملوّنة، ويأمره ببناء البيت.
انظر وتأمل: كيف يبدأ جار النبى بالبساطة لينتهى إلى التعقيد؟ كيف نهبط من عالم «ألف ليلة» إلى خشونة الواقع؟ وكيف تبدو الحكاية كلها «معاصرة» و«مفارقة» فى آنٍ واحد؟
«معاصرة» لأنها عن الفوضى التى صاحبت التمدين فى المجتمع المصرى، و«مفارقة» لأنها تستلهم الخيالى والأسطورى وتعجنه بهذا الواقع.
بهذا التكنيك الصعب، وبذلك السرد السلس الذى يُذكّرنا بفرحة حواديت المساء فى ليالى الشتاء، تكتسب الرواية مغزى مضاعفًا؛ فهى أمثولة رمزية، بقدر ما هى شهادة واقعية عما حدث لقرية ريفية تحولت إلى مدينة صناعية كبرى.
يحقق هذا التكنيك تأثيرًا مضاعفًا، لأن المأساة هنا لن تكون فقط باغتراب سيد عن بيئته وعن أسرته، ولا فقط بشيخوخته وانعزاله، ولكن بالأساس بتحويل الحلم إلى كابوس، وبانهيار عالمه الخيالى السماوى، وهبوطه إلى الأرض، وبردم النهر، مصدر الحياة وموطن الجنى، ثم أيضًا باختفاء الجنى الطيب، الذى لا يعيش إلا فى النهر، فإذا ردموه، ذهب إلى أنهار أخرى، باحثًا عن الكنوز.
المقابلة هنا ليست بين التخلّف والتمدين، لأن سيدًا من روّاد التمدين، ومن المبشّرين بالغد، وهو أول من ذهب لشراء الراديو، وإدخال الكهرباء، والمياه النظيفة، لكنه يعرف جيدًا الفارق بين مدنية تضيف وتُيسّر الحياة، وبين مدنية تهدم وتدمّر.
المقابلة فى جوهرها بين مدنية تحافظ على الطبيعة، وأخرى تهدمها، بين علم يُعمق إحساسنا بإنسانيتنا، وعلم يعزلنا ويجعلنا نغترب عن أنفسنا، والمقابلة بين حياة بسيطة منتجة، وأخرى استهلاكية ومصطنعة.
ربما تكون تلك الرواية أكثر رواية يتكرّر فيها ذكر كتاب «ألف ليلة وليلة»، الذى يحتفظ به سيد فى مكتبته، بل إن الرواية تبدأ فى سطرها الأول مستلهمة أسلوب السرد فى الليالى على النحو التالى: «ولمّا كانت الليلة الأخيرة لتحقيق حلمه الذى راوده لسنوات…»، إضافة إلى استحضار حكاية الجنى، وعفريت قضبان القطار، وجنية جدار البيت، والحديث إلى الطير والحيوان.
تصبح حكايتنا بهذا المعنى قتلًا للخيال، وللنهر، وللحلم، وللطبيعة، فى مقابل حضورٍ جديد للقمامة، وللنفايات، وللبيوت المتداعية، التى شُيِّدت فوق نهر الجنى الطيّب والمهاجر.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات