غزة فى مرآة الفكر الفرنسى - العالم يفكر - بوابة الشروق
الأربعاء 5 نوفمبر 2025 10:12 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يحسم السوبر المصري؟


غزة فى مرآة الفكر الفرنسى

نشر فى : الأربعاء 5 نوفمبر 2025 - 8:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 نوفمبر 2025 - 8:10 م

غزة اليوم ليست مجرد بقعة جغرافية محاصرة على خريطة الشرق الأوسط، بل هى رمز يتجاوز الحدود والسياسة ليصل إلى جوهر الإنسان نفسه. فهى المرآة التى تعكس انهيار النظام الأخلاقى العالمى، وتظهر التناقضات التى تمزق الخطاب الغربى بين ما يدعيه من قيم وما يمارسه من أفعال.

 


فى خضم هذا المشهد المتصدع، برز فى فرنسا صوتان نادران يقفان فى مواجهة السيل الجارف من الصمت والتواطؤ الإعلامى: المفكر الجيوسياسى باسكال بونيفاس، والمؤرخ والباحث جان - بيار فيليو. كلاهما اختار أن يكتب، لا بوصفه مراقبًا بعيدًا، بل شاهدًا يواجه ضميره. أصدر الأول كتابه «رخصة للقتل»، فيما دون الثانى شهادته الميدانية فى «مؤرخ فى غزة»، ليقدما معًا عملين يضربان فى عمق الأزمة الفكرية والأخلاقية للغرب. اللافت إلى أن صدور هذين الكتابين لم يحظَ بتغطية تليق بقيمتهما، بل قوبل الصدور بتعتيم إعلامى متعمد فى فرنسا، وكأن المؤسسة الإعلامية نفسها تخشى أن تنظر فى المرآة التى ترفعها غزة فى وجهها.

بونيفاس وجرأة تفكيك الأسطورة الإعلامية
يعد باسكال بونيفاس من أبرز الأصوات الفكرية التى لم تتردد فى نقد ازدواجية المواقف الفرنسية والأوروبية تجاه الصراعات الدولية. ومن خلال عمله الأكاديمى فى معهد العلاقات الاستراتيجية والدولية (IRIS)، اكتسب صدقية تجعل من آرائه مرجعًا جيوسياسيًا مهمًا، لكنه فى الوقت ذاته دفع ثمن جرأته فى مواجهة الخطاب السائد بشأن إسرائيل.
فى كتابه «رخصة للقتل: غزة، الإبادة الجماعية، الإنكار والدعاية»، الذى يقع فى أكثر من 280 صفحة، يضع بونيفاس إصبعه على الجرح الغربى العميق: فقدان البوصلة الأخلاقية. يبدأ من سؤال محورى: «لماذا تصمت أوروبا التى تتباهى بحماية حقوق الإنسان أمام ما يحدث فى غزة؟».
يقدم بونيفاس تحليلًا دقيقًا لتاريخ التواطؤ الغربى مع الاحتلال الإسرائيلى، لكنه يركز تحديدًا على المشهد الإعلامى الفرنسى الذى، كما يقول: «تخلى عن دوره الرقابى وتحول إلى أداة تبرير». فالقنوات الإخبارية الفرنسية الكبرى - مثل BFM TV وCNews وLCI - تبنت الرواية الإسرائيلية منذ اليوم الأول، متجاهلة السياق التاريخى الممتد لعقود من الاحتلال والحصار. ويشير بونيفاس إلى مفارقة لافتة: كيف يفتتح أى تقرير عن غزة بالعبارة الجاهزة «منذ هجوم حماس فى 7 أكتوبر»، وكأن التاريخ الفلسطينى بدأ فى ذلك اليوم، متجاهلين ما قبله من 75 عامًا من النكبة والقهر والتهجير. بهذا الاختزال، ينجح الإعلام - عن قصد أو من دون قصد - فى إعادة صوغ الوعى الجمعى، بحيث يبدو الفلسطينى المعتدى عليه هو المعتدى والمحتل.

«الهسبارا»: ماكينة الدعاية التى تغسل الوعى
يفرد بونيفاس فصولا مطولة لشرح مفهوم «الهسبارا» (Hasbara)، أى منظومة الدعاية الإسرائيلية التى تعمل فى الغرب لإعادة إنتاج الصورة الذهنية لإسرائيل باعتبارها «القلعة الديمقراطية وسط برية الشرق الأوسط». يؤكد أن هذه المنظومة لا تقتصر على النشاط السياسى، بل تتغلغل فى الإعلام والثقافة والأكاديميا، حيث تعمل على تبييض صورة الاحتلال عبر شبكة من العلاقات والضغوط والتمويلات. يضرب مثالًا ببرامج الحوارات التليفزيونية الفرنسية التى تهيمن عليها أصوات مؤيدة لإسرائيل، مثل كارولين فورست ورافاييل أنطوفن، مقابل تغييب شبه تام للباحثين أو الصحفيين الذين يتجرأون على طرح رواية مغايرة. ويصف ذلك بأنه احتكار للخطاب العام أشبه بمونوبول على الحقيقة. ويضيف أن هذا الانحياز ليس مجرد خلل فى التوازن الإعلامى، بل هو نتاج هندسة سياسية وثقافية متقنة هدفها الأساس جعل التضامن مع فلسطين مرادفا للتطرف، ونقد إسرائيل مرادفا لمعاداة السامية. بهذه الطريقة، يتم إقصاء كل صوت حر، وتحويل النقاش إلى منطقة محظورة فكريًا.

إنكار جديد وضمير غائب
فى فصوله الأخيرة، يتجاوز بونيفاس حدود التحليل الإعلامى إلى نقد أكثر عمقا للثقافة الغربية نفسها. فهو يرى أن ما يجرى اليوم يمثل شكلا جديدا من أشكال الإنكار؛ فبينما أنكر العالم فى القرن الماضى جرائم وقعت بالفعل، نحن نعيش الآن إنكارا لجرائم ترتكب على الهواء مباشرة.
يكتب بونيفاس: "نرى الجريمة تحدث أمام أعيننا، تبث على الشاشات، توثقها الكاميرات، لكننا نختار الصمت. هذا ليس مجرد تواطؤ سياسى، بل إنه سقوط أخلاقى شامل". ويخلص إلى أن الغرب يعيش لحظة فقدان مرجعية إنسانية، إذ أصبحت القيم تنتقى بحسب الهوية السياسية للضحية: حين يقتل أوكرانى، يستنفر الضمير العالمى، وحين يقتل فلسطينى، يتحول الخبر إلى رقم فى شريط الأخبار.

فيليو.. من المؤرخ إلى الشاهد الميدانى
على الطرف الآخر، يأتى صوت المؤرخ جان - بيار فيليو ليقدم صورة ميدانية حية من قلب المأساة. يعرف فيليو بصفته مؤرخًا متمرسًا فى شئون العالم العربى والإسلامى، وأستاذًا فى معهد العلوم السياسية فى باريس، كما أنه عمل دبلوماسيًا سابقًا فى المنطقة، ما منحه فهمًا عميقًا للمجتمعات العربية بعيدا من الصور النمطية السائدة فى الغرب. فى كتابه «مؤرخ فى غزة: الأرض التى عرفتها لم تعد موجودة»، يخلع فيليو رداء المؤرخ الأكاديمى، ويتحول إلى شاهد عيان يكتب بمداد الألم. دخل القطاع فى ديسمبر 2024 بعد شهور من الحصار الكامل، وقضى هناك أكثر من شهر، متنقلا بين المخيمات والمستشفيات والمدارس المدمرة. يقول فى مقدمة كتابه: «غزة التى عرفتها منذ الثمانينيات لم تعد موجودة. ما تبقى من المدينة ليس إلا ركامًا يتحدى اللغة والعقل».

غزة من داخل.. يوميات تحت النار
ينقل فيليو للقارئ صورًا مؤلمة عن الحياة اليومية فى غزة: مدارس تحولت إلى ملاجئ، مستشفيات بلا كهرباء، أطباء يجرون العمليات على ضوء الهواتف، أمهات يبحثن عن حليب لأطفالهن بين الأنقاض، وأطفال يسألون: هل انتهت الحرب؟ لكن ما يميز كتابه هو أنه لا يكتفى بسرد المأساة، بل يحللها بوصفها نقطة انهيار للنظام الدولى. فغزة، كما يقول، ليست مجرد ساحة حرب، بل ساحة اختبار لمنظومة القيم التى تأسس عليها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. حين يمنح أحد الأطراف «رخصة للقتل» بلا محاسبة، فإن القانون الدولى يفقد معناه، وتتحول الأمم المتحدة إلى شاهد عاجز.

بين المؤرخ والإنسان
على الرغم من لغته الأكاديمية الرصينة، يحمل كتاب فيليو بعدا وجدانيا نادرا فى الأدب الفرنسى الحديث. فهو لا يخفى تأثره بما رآه، ويصف شعوره بالعجز أمام مأساة لا يملك أمامها سوى الكتابة. يقول فى أحد فصوله: «عندما ترى أما تبكى طفلها الوحيد، تدرك أن التاريخ الذى تدرسه فى الجامعات لا يكفى لفهم معنى الفقد. التاريخ هنا ينزف». ويصف فيليو المشهد العام بأنه «تطهير عرقى ممنهج» لا يستهدف المقاومة فقط، بل وجود الشعب الفلسطينى ذاته. ويحمل المسئولية للغرب الذى يوفر الغطاء السياسى والعسكرى لإسرائيل، ولبعض الأنظمة العربية التى اختارت الصمت المريح على المشاركة فى الألم.

فكر المقاومة وضمير الإنسانية
يجتمع بونيفاس وفيليو، على الرغم من اختلاف تخصصهما، على فكرة واحدة: أن غزة ليست أزمة سياسية، بل أزمة ضمير. الأول يحلل كيف خذلت النخب الغربية قيمها، والثانى يروى ما ينتج عن هذا الخذلان على الأرض. بونيفاس يكتب من باريس، وفيليو يكتب من غزة، لكن صوتهما يلتقى فى نقطة واحدة: أن السكوت شراكة فى الجريمة. لقد جاء الكتابان فى لحظة تراجع كبرى للفكر النقدى الفرنسى، حيث أسكتت الأصوات الحرة تحت ضغط الاتهامات الجاهزة بمعاداة السامية. ولعل ما يجعل هذين العملين مميزين هو أنهما أعادا الاعتبار لدور المثقف الفرنسى فى مواجهة سلطات الهيمنة، كما فعل من قبل جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار حين دافعا عن قضايا التحرر فى العالم الثالث.

غزة.. المرآة التى تعكس وجوهنا جميعًا
فى نهاية المطاف، تتحول غزة فى رؤية المفكرين الفرنسيين إلى مرآة كونية تعكس ما وصل إليه العالم من تبلد ضمير وتفكك إنسانى. هى ليست مجرد جغرافيا، بل اختبار لصدقية القيم التى لطالما تغنى بها الغرب. فإذا كانت فرنسا تعتبر نفسها «أم الحريات»، فإن موقفها من غزة يكشف مقدار الهوة بين الشعارات والممارسة. ومع ذلك، يظل فى الداخل الفرنسى - كما يظهر من خلال بونيفاس وفيليو - ضمير يقظ يرفض أن يخدر تحت ثقل الدعاية. فالكتابان يمثلان صوتًا نقيًا داخل ضجيج النفاق، وإشارة إلى أن الفكر الفرنسى، على الرغم من كل القيود، ما زال قادرًا على أن ينتج مقاومة فكرية حقيقية.
مقطع القول، قد تهدم المدن، وقد تمحى الذاكرة، بل الذاكرات، لكن الكلمة الصادقة تبقى أقوى من الدمار. غزة، كما يراها بونيفاس وفيليو، ليست مأساة فلسطينية فحسب، بل هى مرآة لضمير العالم، وجرس إنذار للبشرية جمعاء. فى عالم تتبدل فيه الحقائق بسرعة الضوء، يبقى المثقف الحقيقى هو من يختار الحقيقة مهما كان الثمن. وهكذا، يصبح كتاب «رخصة للقتل» وكتاب «مؤرخ فى غزة» أكثر من مجرد شهادتين؛ إنهما فعلان من أفعال المقاومة الفكرية، وصرختان ترفضان أن يتحول الصمت إلى تواطؤ، والخذلان إلى قدر. ربما لا يستطيع المفكران أن يوقفا آلة الحرب، لكنهما يقدمان ما هو أعمق: حفظ الذاكرة، وإحياء الضمير، وإثبات أن الكلمة ما زالت قادرة على أن تقول «لا» فى وجه عالم يصر على أن يصم أذنيه.

 


الطيب ولد العروسى
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلي:

 


https://bitly.cx/Xpua8

التعليقات