يزخر التراث العربى بمؤلفات لا حصر لها فى علم الجدل وكان الدكتور محمد أبو زهرة - من علماء الأزهر الشريف – أبرز من ألف فى علم الجدل فى عصرنا، وحاول إحياء هذا العلم وتجديده، ثم نشر الباحث السورى المتميز محمود السيد الدغيم مخطوطة هامة لمحيى الدين يوسف بن الجوزى عنوانها «الإيضاح لقوانين الاصطلاح» وهى فى الجدل والمناظرة، وتعد أفضل ما وصلنا فى هذا المجال العلمى. قدم المؤلف لمصنفه هذا بمقدمة أوضح فيها أنه سُئل - «إملاء مختصر فى علم النظر، يوضح قواعده ويبين فوائده، وينظم فى سلك التحقيق فرائده» - فأجاب لذلك وقسمه إلى خمسة أبواب: الباب الأول: فى بيان الحاجة إلى علم الجدل. الباب الثانى: فى توطيد قواعد المناظرة. الباب الثالث: فى أقسام الأدلة وبيان أحكامها. الباب الرابع: فى الاعتراضات وكيفية الجواب عنها. الباب الخامس: فى الترجيحات وما يتعلق بها.
فى الباب الأول: أوضح أن معرفة علم الجدل «لا يستغنى عنها ناظر ولا يتمشى دونها كلام مناظر، لأنه يبين صحة الدليل من فساده...» ثم بين معنى الجدل اللغوى من الناحية اللغوية. موضحا ممارسة الأوائل للجدل دون تدوين قوانينه (لأن قرائح الأول كانت تغنيهم عن تدوينهم إياه، كما كانت تغنيهم عن تدوين اللغة والنحو والعروض، وغيره...( ثم يوضح معنى أصول الفقه والجدل فيقول: «قال العلماء: إنه على الفقيه، اللازم له، طلب الوقوف على حقائق الأدلة وأوضاعها- التى هى: مبانى الشرع - وهذا المعنى، هو المعبر عنه بأصول الفقه، وله طرفان: أحدهما: إثبات الأدلة على الشرائط الواجبة لها. الثانى: تحرير وجه الاستدلال بها على شرائط الصحة، والاحتياط عن مكان وجوه الزلل، وعثرات الوهم عند تعارض الاحتمالات فى التفاريع، وهذا الطرف الثانى هو العلم الموسوم بالجدل).
ثم ذكر أن المصنفين «فى هذا الفن اقتصروا فى ذكر الأدلة على نظم تحريراتها دون تقريراتها، اتكالاً على الذهن القادح أو الموقف الشارح». وهو يرى أن «تقرير الدليل أَصْنَعُ من سَبْكِهِ، وأصعب من نظمه، ثم إعلام المبتدئ بِكُنْهِ الأسئلة لا يغنيه عن إعلامه بكيفية إيرادها، وتركيب خصوص الأمور الفقهية على عموم الأسئلة الجدلية...» ثم أوضح أنه اختار (عشرين دليلاً فى عشرين مسألة).
وقرّر كل دليل تقريرا يليق بالمسألة التى تمسّك به فيها ثم وجه «عليه الأسئلة الواردة على مثله موشحة بفقه تلك المسألة مُلخصا كل مقام بأخصر مقال» ثم أوضح «كيفية الأجوبة عن تلك الأسئلة» ليتمكن المبتدئ من «الإحاطة بماهية الأدلة والاطلاع على سر تركيبها، والاضطلاع بكنه تقريرها والتهدى إلى إيراد الأسئلة عليها فى مواضعها، والتنبه على كيفية الجواب عنها» ثم أكد أن هذا المختصر كفيل لمن حفظه وفهمه بالترقى «من وهاد حفظ الأدلة المسطورة إلى يفاع اختراع أدلة غير منقولة» ثم بيَّن أن «هذا المختصر على الحقيقة مع وجازته جدلاً وأصول فقه وطريقة».
وفى الباب الثانى كتب مقدمة وتمهيدين، فذكر فى المقدمة «أن لأرباب كل صناعة ألفاظا يتداولونها بينهم فى مجاراتهم، قد وضعوها بإزاء مُسَمَّيات يحتاجون إليها فى محاوراتهم، فلا يقف غيرهم على موضوعها إلا بتوقيف منهم» ولذلك فقد أورد «75» مصطلحا بدأها بـ «الحد» واختتمها بـ«الفرض» ثم تحدث فى التمهيد الأول عن آداب المناظرة، وفى التمهيد الثانى عن السائل والمسئول، والجواب والفرض.
وفى الباب الثالث: أورد «أقسام الأدلة وبيان أحكامها» حيث أوضح الدليل والدال والمبين والمستدل، ثم ذكر مجموع الأدلة، وهى: الكتاب، والسنة، والاجماع، والقياس، والاستدلال فأوضح صحة الاستدلال بالنص، والمرسل، ثم انتقل إلى السنة فأوضح المقطوع والمظنون، وفعل النبى، وإقراره، ومذهب الصحابى، ثم ذكر الإجماع وأقسامه الستة، وأعقبه بالقياس، فأوضح أن تركيبه من أصل وفرع وعلة وحكم، ثم فصل أنواع القياس وعلله وأدلته.
صدر فى هذا الاتجاه كتاب الدكتور عبداللطيف عادل تحت عنوانه «بلاغة الإقناع بالمناظرة» الكتاب كُتب بأسلوب شيق وبه طرافة وجدة، غير أنه غاب عنه الكتابان السابقان كمرجعين لهما أهميتهما، انطلق الباحث من أن بلاغة الإقناع لم تكن حكرا على المدونة البلاغية الغربية، بل شهدت حضورا خصبا فى التراث العربى الإسلامى، وقد كانت إسهامات الجاحظ وابن وهب والسكاكى، تعبيرا مؤسسا واعيا عن هذا الحضور، فإذا كان الجاحظ قد اهتم بتدقيق الشروط البلاغية التى تمنح الخطاب خواص التبليغ والتأثير، فإن إسحاق بن وهب ألح على بيان معرفى قوامه الحجة ومؤداه الاعتبار والاعتقاد، فى حين أن السكاكى دافع عن بلاغة استدلالية تراهن على المقام والمقصد، إلا أن بلاغة الإقناع لم يكتب لها التوسع، كما لم تحظ بالتطوير فى ثقافتنا، إذ انحسرت لتعم بدلها بلاغة الصورة، ومن المفارق، أن نتاجات الثقافة العربية الإسلامية فى جنسين إقناعيين هما (الخطابة والمناظرة) كانت تؤهل بشكل واعد للاعتناء بالإقناع، مقارنة بالبنية اليونانية التى ارتبط الإقناع فيها أكثر بجنس الخطبة.
المناظرة فى التراث جسدت الدليل الحى على اقتناع الثقافة العربية الإسلامية بالحوار، واحتضانها الواسع للتعدد والاختلاف فى المواقف والآراء والتصورات، ليس داخل بنيتها فقط، بل وكذلك فى علاقة مع بنيات حضارية خارجية. إن المناظرة فى التراث العربى الإسلامى جسدت المسار الخصب للتفاعل والانفتاح الذى سلكته هذه الثقافة، إذ لم تكن منغلقة على نفسها أو محترزة إزاء الآخر وتياراته، لقد حاورت هذه الثقافة من خالفها، وقبست مما أقنعها وخلال فترة تاريخية مهمة، وفى سياق حجاجى منتج أثرت هذه الثقافة وتأثرت، وعوض الحوار الإكراه وشهدت بغداد والأندلس المظاهر الأرقى لأجواء متسامحة أقرت التعايش والتحمل المتبادل. المناظرة فى التراث العربى الإسلامى لم تكن مواجهة عميقة أو اختلافا عدميا بل شكلت وسيلة للمفاعلة العقلية وعاملا منتجا للقيم والأفكار ومن ثم، غايرت العديد من أشكال التناظر الغربية.
لم تكن المناظرة ممارسة خطابية ومعرفية سائبة بل أحكمت بقواعد وآداب على المتناظرين التزامها، ولذلك أحاطها القدامى بشروط جعلتها ممارسة منتجة لا مماحكة عقيمة، كما قيدت الطرفين المشاركين فيها باحترام الاختلاف وتقدير المسافة بين الأفكار، لقد حددت المناظرة لطرفيها حقوقا وواجبات وأقرت طقوسا مساعدة لها على أداء دورها المعرفى واختصت بمجالس معينة حفظت لها هيبة العلم وفائدته، لقد أثبت البحث أن المشاركين فى المناظرة يتراوحان بين منازل الادعاء والمنع، منتهجين التدليل طلبا للصواب، وسعيا نحو الإفحام والإلزام. هذا التواجه المنتج الذى يجرى داخل مجالس علمية، يقيد المتناظرين بجملة من الآداب فيها اعتبار الآخر والاحتراز عن الضحك ورفع الصوت والابتعاد عن المكابرة والاستعداد للمشاركة فى بناء المعرفة.
إن الآليات الحجاجية التى توفر للمناظرة خاصيتها الإقناعية تجلت حسب ما خلص إليه البحث فى طريقة البناء الحوارى، هذا البناء الحوارى يؤشر إليه توزع الضمائر وأدوار الكلام وأفعاله وتقنيات توسيع الحوار أو إغلاقه، فالضمائر الشخصية تحيل باختلافها عن التفاعل الحجاجى فى المناظرة أما أدوار الكلام فتشف عن طريقة تنظيم التناوب بين المتداخلين وتكشف عن تقنيات خرقه وبخصوص أفعال الكلام إبان البحث عن استناد المناظرة أساسا إلى عبارات العرض والحكم، كما انتهى تحليل المناظرات إلى أن توسيع الحوار فيها يتم عبر التناقض أما الإغلاق فقد يكون إفحاما أو إلزاما وتجلى الإقناع فى هذا الجنس كذلك من خلال التشغيل الحجاجى للاستفهام، الذى يتحول عن دلالته الحقيقية ويتجاوز براءته وحياده ليصبح أداة لإيقاع الطرف الآخر أو استدراجه من خلال مضامين التبرير والتوريط والاستنكار والتقرير التى تلبسه ويتمظهر الحجاج فى المناظرة أيضا من خلال تشغيل النفى فى مقصديات النقض والاعتراض والجحد أو التعويض التى تحكم التعاطى مع الرأى المنافس وفضلا عن ذلك تستعين المناظرة، خدمة لهدفها الإقناعى، بالشاهد أساسا القرآنى والشعرى لما لهما من سلطة فى الإفحام وتحقيق الاعتقاد.