تثير مسألة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ولقواعد القانون الدولى بشكل عام تساؤلات عدة حول جدوى هذا القانون ومدى فاعليته تجاه ما يحدث على الصعيد الدولى من خروقات واضحة وتجاوزات لا حصر لها.
والمسألة لا تكمن ــــ فى الحقيقة ــــ فى عدم فاعلية القانون الدولى، وإنما فى عدم تفعيله بالشكل اللازم والمناسب ليؤدى دوره كما ينبغى أن يكون. فالمؤسسات الدولية موجودة، وكذلك القواعد القانونية، مع توافر آليات تطوير ذلك وتحديثه وفقا لما تقتضيه الأوضاع والمستجدات، وما يعطل هذا الدور حقيقة هو إرادة الدول ليس إلا.
كانت جهود الدول بإزاء تطوير قواعد القانون الدولى وآلياته حثيثة ومستمرة، فمنذ منتصف القرن السابع عشر حين كادت أوروبا تغرق فى أزماتها وحروبها المتوالية، حاولت حكوماتها، على اختلاف أنواعها وسياساتها آنذاك، الخروج بمفهوم مشترك يؤسس لاستقرار الحكم والحفاظ على التوازن الدولى وازدهار العلاقات فيما بينها، فكان ثمرة ذلك مؤتمر ويستفاليا فى العام 1648 الذى توج إنهاء حرب الثلاثين عاما الأوروبية بجملة من المبادئ الدولية أسست لميلاد القانون الدولى فى شكله التقليدي، تلا ذلك العديد من المؤتمرات والاتفاقيات التى أخذت فى تطوير هذا القانون وتدوين قواعده العرفية.
فى التساؤل عن جدوى القانون الدولى
شكلت معاهدة ويستفاليا فى العام 1648 منعطفا مهما فى تاريخ العلاقات الدولية، حيث أسست لأولى قواعدها؛ كما مثلت بداية لظهور القانون الدولى العام وتدوين قواعده ومبادئه الراسخة، فى محاولة لإدارة العلاقات الدولية، بما يضمن السيادة والسلام بعيدا عن سلطة الملك وسلطة الكنيسة، وهو ما أدى إلى نشأة الدولة الوطنية صاحبة السيادة والسلطة التى لا تعلوها سلطة أخرى. كما أقرت المعاهدة حرية العقيدة، وتم التأكيد خلالها على مبدأ التوازن الدولى لحفظ الأمن والسلم الدوليين، وكذلك على مبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية.
وتعتبر إعلانات الحقوق الصادرة عقب الثورتين البريطانية 1689 والفرنسية 1789 بمثابة ركيزة لتدوين قواعد القانون الدولى لحقوق الإنسان الذى تطور شكله فيما بعد، كما كان تأسيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر فى العام 1863 وما تلاها من مؤتمرات، وبخاصة مؤتمرا لاهاى 1899 ـــــ 1907 واتفاقيات جنيف أساسا لتدوين القانون الدولى الإنسانى. كما شكلت معاهدة فرساى فى العام 1919، وما رافقها من جهود، أساسا لإنشاء قواعد القانون والقضاء الدولى الجنائى الذى تم إرساء دعائمه بعد الحرب العالمية الثانية فى شكل محاكم مؤقتة (محكمة طوكيو ومحكمة نورمبرج) تختص فى محاكمة كبار مجرمى الحرب والذى تطور شكله فيما بعد أيضا، وتم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة فى العام 2002 بموجب ميثاق روما الأساسى لعام 1998. كما ظهر القانون الدولى الاقتصادى بعد الحرب العالمية الأولى نتيجة لتطور العلاقات الاقتصادية والقانون الدولى للبيئة بعد الحرب العالمية الثانية بعد انتشار التلوث الإشعاعى.
واليوم عندما نتحدث عن إخفاق ما على الصعيد الدولى، فى الوقت الذى يتساءل فيه البعض عن جدوى القانون الدولى إذا لم يحرك ساكنا، فأى فرع منه هو المقصود؟ وهل حقا أنه لم يؤد أى دور؟
لكن إذا ألقينا نظرة على فروع القانون الدولى العام المختلفة، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان، أنه لا يمكن الاستغناء عن هذه القواعد الدولية ككل، وإلا وقعنا فى فخ الفوضى والتغول الحقيقى؛ فهذه القواعد هى التى تدير دفة الحياة الدولية.. والأدهى من ذلك أنه لا يمكننا الاستغناء حتى عن تلك التى لم تتفعل بالشكل المناسب بعد كل الجهود التى بذلت فى سبيل إرسائها. فالعيب إذن ليس فى القانون الدولى، وإنما فى غياب التفكر فى آليات جديدة لتفعيله على المستوى الإنسانى، وجعله أكثر قابلية للتطبيق والاحترام؛ والمقصود هنا هو القوانين الإنسانية (القانون الدولى لحقوق الإنسان، القانون الدولى الإنسانى، والعدالة الجنائية الدولية). كما تنبغى الإشارة، وبكل وضوح، إلى الثغرات القانونية إن وجدت، والعقبات والتجاوزات التى تعيق تطبيق هذا القانون، وكذلك الجهات التى تتحايل وتتنكر لالتزاماتها الدولية.
«الفيتو» وإعاقة عمل الأمم المتحدة
إن أول ما يعيق عمل الأمم المتحدة هو حق النقض (الفيتو) الذى تتمتع به خمس من الدول الكبرى فقط دونما غيرها. صحيح أن مجلس الأمن أصبح يشمل خمسة عشر عضوا، لكن التصويت فى المسائل الموضوعية يتطلب موافقة الدول الخمس الكبار مجتمعة، إضافة إلى أن التفرقة بين المسائل الموضوعية والإجرائية تبقى أمرا نسبيا وخاضعا لتقديرات المجلس عينه. ولعل أخطر ما يمكن أن يقوم به مجلس الأمن الدولى، هو وقوفه على الحياد تجاه الانتهاكات الصارخة والتجاوزات الانفرادية، أو تحييد نفسه أو إحدى دول الفيتو عن المساءلة، وهو ما يعبر عنه بالامتناع عن إصدار القرار المناسب لمعالجة القضايا الأشد ضرورة وإلحاحا فى مثل ما حدث فى موقف الولايات المتحدة وبريطانيا حيال وقف إطلاق النار فى غزة، فالأولى رفضت، والثانية امتنعت عن التصويت، وقد تكرر مثل هذا الفعل مرارا فى قضايا أخرى سابقة. كما كشفت ممارسات مجلس الأمن ازدواجية فى المعايير فى تناول موضوعات متشابهة بمواقف متباينة، كحرب أوكرانيا، مقارنة بالعدوان على غزة؛ فى حين لا تسأل دول بعينها عن تجاوزاتها، كالولايات المتحدة مثلا، التى انتهكت القانون الدولى بعدوانها على إيران مؤخرا.. بينما تتجاوز بعض الدول بقوانينها الداخلية صلاحيات مجلس الأمن حين تقرر عقوبات على دول أخرى خارج إطاره، ومجلس الأمن الدولى لا يخضع لأى مساءلة دولية كمجلس. أما الخمسة الكبار، فهم محصنون ومحيدون بالفيتو، وإلا لكانت روسيا فى خبر كان. وعلى الرغم من أهمية قرارات مجلس الأمن الدولى، إلا أنه لا يعكس حقيقة العدالة الدولية؛ ولطالما كان محلا للنقد، كما ظل النداء بضرورة إصلاح الأمم المتحدة مستمرا.
ومن الخطورة أيضا علاقة مجلس الأمن بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة إذ بإمكانه إحالة أى قضية إلى المحكمة أو إرجاء أى قضية منظورة أمامها لمدة اثنى عشر شهرا قابلة للتجديد، وذلك بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة ووفقا لما هو مقرر فى نظام روما الأساسى، وهو ما يثير التساؤل حول مدى تدخل مجلس الأمن فى عمل المحكمة وإجراءاتها. فالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، وإن كانت هيئة مستقلة عن الأمم المتحدة، إلا أنها محكومة بنظامها الأساسى وبالقضايا الدولية ذاتها، ولذلك فإن العلاقة بينهما واردة وضرورية، ولكن ليس إلى حد التدخل فى أعمالها أو تعطيلها أو محاولة السيطرة عليها أو تهديد قضاتها مثلما فعل مجلس النواب الأمريكى الذى أقر مشروع قانون لفرض عقوبات على المحكمة، والمحكمة عموما لها اختصاصها، وهى لا تنظر إلا فى القضايا بين الدول الأطراف فى نظامها أو بموافقة مسبقة من الدولة غير الطرف، وهو ما يثير صعوبة فى تحريك الدعاوى ضد الدول غير الأطراف، وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال لكل من بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف جالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. واعتبرت أن هذه الجرائم تدخل فى نطاق اختصاصها الذى يمتد ليشمل غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية. فعلى الرغم من أن الاحتلال الإسرائيلى لم يصادق على نظامها الأساسى، إلا أن فلسطين قبلت باختصاصها، وتعتبر عضوا فيها منذ العام 2015، والكثير من الدول والمنظمات الدولية ما زالت تسعى لإقرار العدالة الدولية ومعاقبة مرتكبى الجرائم، سواء أمام المحكمة الجنائية الدولية أم أمام محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة فى مثل جنوب إفريقيا التى سعت أمام هذه الأخيرة العام الماضى إلى تحريك الدعوى ضد حكومة الاحتلال الإسرائيلى بتهمة ارتكاب إبادة جماعية فى غزة، وذلك بناء على المصلحة المشتركة لجميع الدول فى منع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها المتضمنة فى اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، وطلبت جنوب إفريقيا من محكمة العدل الدولية اتخاذ تدابير مؤقتة لحماية الوضع فى غزة إلى حين صدور قرارها، لكن إنفاذ القرارات يحتاج إلى سلطة مجلس الأمن الذى يبقى رهينة الفيتو الكبير والهيمنة الأمريكية.
والخلاصة هى أن الحديث عن عدم جدوى القانون الدولى هو حديث غير مجد من أساسه، وما ينبغى الحديث عنه هو سبل إصلاح منظومة الأمم المتحدة، فى الأخص تشكيلة مجلس الأمن ونظام التصويت فيه، وكيفية إلغاء الفيتو أو جعله بيد جميع أعضائه الخمسة عشر. أما القانون الدولى فيكاد يكون أكثر أهمية مما مضى، ولا سبيل للاستغناء عنه، بل إنه سلاح لا بد منه إلى جانب سلاح العلم وسلاح المعركة.
وفاء مرزوق
مؤسسة الفكر العربي