نشرت جريدة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبدالإله بلقزيز، يؤكد فيه على أن الحرب ظاهرة مكروهة وممجوجة أخلاقيًا وإنسانيًا، يتهرب الجميع من تبنيها صراحة ويسعون لتسويغها بالاضطرار أو الدفاع عن النفس، لكنها فى الوقت نفسه تبدو كـ«وهم مستحيل» أن يتم القضاء عليها نهائيا بسبب ارتباطها الوثيق بوجود المصالح المتصارعة واقتصاديات صناعة الأسلحة المتنامية.. نعرض من المقال ما يلى:
من أى زاوية نظرنا إلى ظاهرة الحرب، وبأى الأدوات والمفاهيم تناولناها، سنجدنا أمام ظاهرة ملغزة تكاد أن تكون ممجوجة عند السواد الأعظم وعصية على الاستقبال النفسى والاجتراع الأسوغ. حتى من ينخرطون فيها ويتورطون، هذه الدرجة أو تلك من التورط، يتحرجون من إتيان أفعال الحماسة لها أو التنويه بها. قد يلتمسون لها، ولأنفسهم فيها، وجوها من التسويغ والتبرير تقتضيها الحال، لكنه التبرير الاضطرارى الذى لا يندفع إلى مديحها أو القول بلا بديتها الأخلاقية.
لذلك كان الغالب على مسوغة الحرب والباحثين لها عن مشروعيتها أو عن مشروعية مشاركتهم فيها الادعاء بأنهم حملوا عليها حملا وأكرهوا وما كانوا فيها راغبين، أو أنهم كانوا فيها فى حالة دفاع عن النفس ليس أكثر وما كانوا البادئين بها أو المبادرين إليها. إذا كانت هذه حال الحرب عند من ينخرطون فيها سعيا وراء مصالح يرتئون أنها من طريق الحرب تأتى وتتحصل، فما عساها تكون حالها عند من تقع عليهم بقوة الأمر الواقع فيصيرون ضحاياها؟!
من البين، إذن، أن صورة الحرب ظلماء فى عيون الأكثر، وأن أحدًا لا يجرؤ على الدفاع عنها من حيث هى لغة تخاطب بين البشر. إنها حفلة قتل جماعية لا غاية لها سوى الإفناء، ونشر الموت، وهى لذلك لا تتردد فى نهك أى مبدأ: دينى أو أخلاقى أو سياسى. إنها لغة بهماء فى النطق بأى معنى إنسانى، وليس لها أن تحظى بأى مقبولية حتى وإن درجت عليها الأعراف وباركتها شرائع وقوانين دولية، وهي، فوق هذا وذاك، لغة لا تليق بالتداول فى المعيش الإنسانى وفى حقل العلاقات الدولية.
ولما كانت الحرب حمالة هذه المعانى المرذولة جميعها، ولما كانت هذه كلها تختصر فى مفردات: القتل والفناء والموت، صار من الطبيعى أن ينأى الجميع بنفسه عن شبهة الصلة بها حتى حين تشتد به الحاجة إليها، موثرا أن يشارك فى طقس إدانتها واستبشاعها لئلا يصير، فى عيون المرتابين، هو المدان المستبشع.
ولقد تمسك كثيرون فى التاريخ ــ فلاسفة ومفكرين ودعاة سلام ثم حركات مناهضة للحروب ــ بحلم نهاية لهذا الكابوس تصحو منه الإنسانية على سلام أبدى تنعم فيه وتطوى به صفحات تلك الحروب الحوالك التى أفنت ملايين البشر، ودمرت البيئة والحضارة والقيم الإنسانية. هو مجرد حلم، لكنه حلم مشروع وإن كان من دون تحقيقه المادى خرط القتاد. ولكنا نعلم، على القطع، أن ما هو مشروع ليس فى حكم الإمكان المتاح دائما، وهذا، بالذات، ما عليه حال الحرب والأمل فى معاينة نهاية لها، بل لسنا نغلو حين نذهب إلى القول إن ذلك ليس فقط غير ممكن أو متاح، بل هو فى حكم المستحيل الذى تتحول معه هذه الطوبى إلى وهم.
يكفينا تدليلا على ذلك أن نشير إلى أمرين: أولهما أن وجود الحرب مقترن، فى التاريخ، بوجود المصالح التى تحمل على ركوب أهوالها قصد تحققها بالقوة إن عز لها التحقق سلما، ونحن نعلم أن الصراع بين الناس صراع على المصالح، فى المقام الأول، وليس من إمكان لإنهاء الحروب إلا بإنهاء المصالح، ولا بإنهاء المصالح إلا بنهاية الإنسان! ثانيهما أن الحرب ومركزية دورها فى الصراعات فرضت، فى مجتمعات البشرية كافة، اقتصادها الخاص بها (الإنفاق الدفاعى بما فيه إنتاج الأسلحة وتنمية الجيوش...)، فكان أن قامت صناعات عسكرية ــ دولتية وخاصة ــ وتولد من ذلك نشوء مصالح خاصة وعامة لا يمكن الحفاظ عليها ولا تعظيمها إلا بإشعال الحروب وتوفير وقودها الحيوى (نشر الأزمات فى العالم).
يتعسر فى مثل هذه الأحوال التطلع الطوبوى نحو عالم خال من الحروب رافل فى السلم. مع ذلك، يظل على عاتق كل المدافعين عن الإنسان وحقوقه أن يناضلوا من أجل السلم والتعايش بين الأمم، وأن يفضحوا تجارة الحروب وتجارها ــ دولا وشركات ــ ويقاوموا، فى الوقت عينه، سياسات العسكرة وتوسع اقتصادها على حساب الاقتصاد المدنى السلمى… إلخ.