تراكم الوقت حتى كَبِر وصار زمنًا. أعلم أن علاقتى بقياس كل شىء وكل مهمة بما تستهلكه من وقت تصل إلى حد الوسواس المرضى، ومن ذلك استثناء واحد: حياتى معها. حدثتُ نفسى وأنا جالس تحت مظلة على مركب يتحرك بنعومة على صفحة مياه النيل. بدأ الحوار خاطرًا شخصيًا، ثم تخيلته يسمعنى. نهر النيل يمتد ويجرى كخط الزمن الذى أتحدث عنه. لا نعرف متى بدأ جريان المياه، ولا متى على وجه اليقين ارتبطنا به، لكننا نملك حكاية تحتل مساحة على امتداد ضفاف النيل، وحصّة وقت فى خط الزمن. جلستُ على صفحة مياهه أحكى له عن رحلتى حتى العودة معها مرة أخرى بعد ثلاثين عامًا بالتمام والكمال. عندما فاجأنى التاريخ، قررتُ إعادة المشهد من جديد. كنتُ أول من اتخذ قرار الزواج ضمن دائرة أصدقاء العمر. حذّرنى الجميع من صعوبة التجربة، ومن حجم المغامرة فى سِنّى الصغيرة.
• • •
«تمهّل، فحياتك الآن كلها لك. أشفق عليك من الاندفاع وما يترتب عليه من أعباء نفسية قبل أوانها».
قالها الأب الصديق، وهو يعلم أن ردى سيكون إصرارًا على اختيارى. مثله تمامًا، تعامل الجميع بمزيج من الإشفاق والإعجاب وتمنى الأفضل. كانت الرحلة النيلية حيلة لتدبير سفرة معقولة التكاليف بفضل أصدقاء وزملاء بدأوا العمل بعد أن تخرجنا فى كلية السياحة والفنادق. كنت أبحث عن كل فرصة ممكنة لخفض التكلفة، والاحتفاظ بمظهر لائق لا يكشف حدود قدراتى المالية مقارنة بالدائرة الاجتماعية المحيطة. تحايلتُ فى كل التفاصيل. طلبتُ مثلًا من العم العزيز والفنان التشكيلى العظيم يوسف فرنسيس أن يرسم لى لوحة بسيطة من لون واحد أضعها على بطاقة دعوة الزواج. كانت هذه حيلة لتشتيت أهلها الذين صبروا وتجاوزوا عن ضعف قدراتى الاقتصادية بما يسمح بتلبية المتطلبات التى يفرضها المجتمع، فتتحول أكياس من رمال تثقل أحلام كل شاب وشابة وأسرتين. كانوا هم أنفسهم ضحايا مشاعر متناقضة. أثار إعجابهم ما يبذله الشاب من جهد مخلص، واندَهشوا أن الصحفى الكبير أشار باتجاهى وقال: «هذا الشاب هو ثروتى ومالى. سأساعده بقدر، لكنه صاحب التجربة والمشوار». وكما تجرى مياه النهر، جرت مياه الجهد والسعى فى عروق الشجرة التى زرعناها معًا.
• • •
ولأن طبيعة عملى جعلت لكل شأن شخصى زاوية عامة، وفى كل شأن عام لمحة شخصية، فقد قررتُ سؤاله عن أحواله. كيف جرت مياه النهر؟ هل تعكرت بفعل السنوات، أم تجددت وتدفقت؟ تخيلته يقول إنه عندما استضافنى قبل ثلاثين عامًا، لم يكن يسمع تصريحًا يشكك فى انتمائه لنا أو وجوده بيننا. قال إنه يسمع جدلًا وضوضاء عن محاولات لا يدرك صاحبها أو أى متواطئ معه عمق علاقتنا، ولا يهتم كثيرًا بأوهام وضلالات شهدها تتشكل كدخان يبدأ كثيفًا، ثم يتلاشى بلا أثر. قال إن قصتى تتشابه مع ملايين القصص التى لعب فيها دوره المكتوب، بطلًا فى معظمها، وفى بعضها الآخر شاهدًا عليها.
• • •
أجبته مصدّقًا على ما قال: صحيح ما ذكرتَ، فكما شهدتَ نمو شجرتى، فقد رويتَ ورعيتَ زرعًا وشجرًا لا نعرف متى نما وترعرع وأكل منه وتظلّل به كل من سكن وادينا وخريطتنا.
سمع النيل حكايات وحكايات.. بعضها نقش غائر فى الحجر، وبعضها الآخر همس شخصى على صفحة مياهه كما فعلت.
قطع حوارنا صوت عبد الرحمن، الشاب الأسمر النبيل الذى يصغر ابنى الأكبر بعام واحد، وقد جاء يراجع معى برنامج الرحلة. ابتسمتُ له قائلًا إننى أعفيته من هذه المتابعة الكريمة لأن رحلتى هذه المرة سيكون كل ما فيها اختياريًا لا إجباريًا. وطلبتُ منه أن يحكى لى عن عمله وحياته التى تبدأ والتى قال إنه يحبها على ضفاف النهر.
• • •
عندما قررتُ القيام معه، تخيلتُ النيل يبتسم لى قائلًا: «عبد الرحمن يعيش معى ويزورنى كما فعلتَ أنت قبله. لا تفكر فى الوقت كثيرًا، ولا تشغل بالك بمحاولتهم وجدَلهم. أنا هنا من قبل أن تأتى أنت وعبد الرحمن، وسأبقى فياضًا ملازمًا لخط الزمن. استمتع بذكريات الشجرة التى زرعتها مع زوجتك، وسأنتظر حكايات أبنائكم وأحفادهم عندما يحين وقتها».