السياسة الخارجية لأى دولة هو منهجها فى التعامل مع المحيط الخارجى بمختلف أبعاده، البينية والإقليمية والدولية، مضاف إليه بُعد آخر وهو نوعية القضايا التى تتفاعل معها. والبعض يخلط بين السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، ويمكن توضيح الصورة إذا اعتبرنا أن حقل العلاقات الدولية هو البيئة أو المحيط الذى يعمل فيه الجميع، بينما السياسة الخارجية هى سلوك الدولة داخل هذا الإطار. والكثير من المفكرين والباحثين يعتبرون هذه البيئة المحيطة، التى أحيانا يطلق عليها النظام العالمى، هى بيئة تتسم بالفوضوية، والمعنى المقصود، غياب سلطة مركزية تحكم هذا النظام، لكن لا يعنى ذلك غياب قوة مهيمنة فى مختلف الأرجاء أو الأقاليم، وقوة مؤثرة فى مختلف الملفات، وقوة أخرى مناوئة على كل الأصعدة. ودور السياسة الخارجية هو التعامل مع هذا النظام لتحقيق الأهداف العليا للدولة، فالبعض يريد تحسين موقفه، وآخر فشل فى ذلك، وثالث يطمح لتغير النظام لصالحه، من هنا نقترب من الاتزان الاستراتيجى.
عندما تقول دولة إنها تعمل على تحقيق اتزان استراتيجى، فهى فى الحقيقة تقول إنها تدير علاقتها مع القوى الأخرى، وتريد أن تصل إلى نقطة التعادل أو التكافؤ عن طريق استعمال عدة أدوات على رأسها، بناء القدرات العسكرية، وتطوير الشراكات، وبناء التحالفات، وتوظيف السياسة الاقتصادية، والعلاقات الدبلوماسية، كل فى آن واحد، بدون أن يعنى ذلك اللجوء لاستعمال القوة، ناهيك عن الانزلاق إلى المواجهات. فالحرب هى الخسارة مهما كانت نتائجها، إلا لو تم فرضها عليك. لذلك مفهوم الاتزان أوسع من مفهوم التوازن العسكرى، إذ يعمل على مستوى الاستراتيجية العليا للدولة، والذى تتشارك فى صناعتها وتنفيذها مختلف مؤسسات الدولة، مثل الخارجية، والدفاع، والتجارة الخارجية… إلخ، تحقيقا للأهداف العليا. وكلما زادت التحديات الخارجية كلما تطلب ذلك تطوير الاستراتيجية لاستعادة الاتزان؛ فالاتزان ليس مرحلة تصل إليها وإنما مسار تحافظ عليه. واختصارا نقول إذا كانت السياسة الخارجية تدور حول «ما تريده»، فإن الاتزان الاستراتيجى يدور حول «كيف تحقق ذلك»، و«كيف تحافظ عليه». على سبيل المثال، الهند لجأت لتحالف رباعى عام 2017 يضم كل من اليابان وأستراليا والولايات المتحدة لعمل اتزان مقابل الصعود الصينى.
• • •
ننتقل إلى مسألة أخرى عن استخدام مفهوم الاتزان الاستراتيجى، فمجرد اختيار أى دولة لهذا المفهوم ليكون عنوانا لسياساتها الخارجية فإن ذلك يقترب بنا من نظرية الواقعية فى العلاقات الدولية، وهى تصوير العالم كما هو وليس العالم كما ينبغى أن يكون.
تعتبر الواقعية مفهوم القوة وكيفية توزيعها عبر العالم هو الذى يحدد مكانة الدولة فى النظام العالمى أو الإقليمى. فلا توجد دولة تريد أن تهمين عليها قوة خارجية، ناهيك لو كانت الهيمنة من قوة مناوئة. لذلك ينظر الواقعيون إلى التوازن على أنه هدف رئيسى يساعد على الاستقرار؛ كما تحاول الدول صناعة التوازن مع الخصوم والمنافسين عن طريق بناء القدرات فى مختلف المجالات: العسكرية، والاقتصادية، والأمنية، والدبلوماسية.. والتى يطلق عليها اختصارا عناصر القوة الشاملة، والتى كلما ثقلت تمكنت الدولة من ردع الخصوم وتحقيق الاستقرار. بما أن كل دولة تحاول تنمية قدراتها بصورة دائمة، فإن المسار يتحول فى الواقع إلى سباق على الصعيد الإقليمى، وأحيانا الدولى. تحاول كل دولة فى السباق -المشار إليه سابقا- تحسين موقعها داخل هذا النظام. أحيانا، عندما تتعاظم قوة وقدرة الدول، تطمع فيما هو أكثر من تحسين المكانة، وتحاول تغيير أو تسخير النظام ليعمل لصالحها. الكثيرون ينظرون للغزو الروسى لأوكرانيا على أنه عملية تحويل للنظام وليس فقط تحسين لموقعها داخله، تماما كما ينظر البعض لسياسة الصين تجاه تايوان.
لكن بما أن كل شىء يتغير فى هذا العالم، فإن ما تراه الواقعية ليس دائمًا ثابتًا. بمعنى آخر، العالم ليس كما يبدو فى الظاهر دائمًا، إذ إنه قابل للتغير. بالتالى، يتغير الاتزان الاستراتيجى ويكتسب أبعادًا أخرى. على سبيل المثال، تختلف نظرة الولايات المتحدة لدولة حليفة تطور من قدراتها النووية جذريًا عن دولة مناوئة تقوم بنفس الفعل. لذلك نجدها تغض الطرف عن برنامج إيران النووى عندما بدأ فى عهد شاه إيران، الذى كان حليفها، بينما تقف بالمرصاد لنفس البرنامج عندما غير الملالى النظام الإيرانى. مثال آخر، تغير مفهوم الاتزان بين إدارتى بايدن وترامب بخصوص الحرب الأوكرانية، فبينما كانت إدارة بايدن شديدة العداوة لروسيا، وحملتها المسئولية عن تبعات غزوها لأوكرانيا، نكاد نرى النقيض من إدارة ترامب. فما الذى جرى؟ إن عناصر القوة الشاملة لروسيا لم تتغير فى حربها ضد أوكرانيا بالقدر الذى يجبر الولايات المتحدة على مراجعة سياساتها الداعمة لأوكرانيا. إنما ما تغير هو مسألة معيارية، أى أن نظرة إدارة ترامب لحقيقة ما يجرى على الأرض مختلفة نوعيا عن نظرة سابقتها، حيث صرح الرئيس ترامب بأنه لا يريد إشعال الحرب العالمية الثالثة، وبالتالى كسر عزلة الرئيس بوتين وقابله عدة مرات، كما طرح أكثر من مبادرة لوقف الحرب. فعل الرئيس ترامب ذلك لأنه لا يرى أن روسيا تمثل تهديدًا، بل إن الرئيس بوتين -أيضا- يرى بلاده شريكًا لأوروبا، ولو صادف هذا تغيير فى الرؤية الأوروبية تجاه روسيا فإن الحرب ستنتهي. وما عرضناه فى هذه الفقرة هو تحليل يستخدم نظرية البنائية فى العلاقات الدولية، والتى ترى أن الأهم من الواقع هو معناه بالنسبة لنا!
• • •
قد يأتى الاتزان الاستراتيجى عن طريق احترام القواعد الدولية التى تقييد استخدام القوة، أو التهديد بها، وهو طريق المنظمات الأممية المعنية بحالة السلم والأمن الدوليين، والتى تتوافق الدول طواعية على احترام مبادئها، وتنفيذ التوافقات الصادرة عنها. وذلك بالرغم من فقدان الثقة فى كثير من هذه القواعد نظرا لازدواجية المعايير، إذ يطبق على الضعيف ما لا يطبق على القوى، لكن ما زال للقواعد دور أساسى فى الاتزان الاستراتيجى، وبدونها نصبح فى عالم أشد خطرا، وأكثر فوضى وضراوة. علما بأن غالبية الدول تحترم القواعد الدولية، بينما التى تضع نفسها فوق القواعد هى أقلية، وتحصد نتيجة انتهاك هذه القواعد الإضرار بسمعتها وظهور وجهها الحقيقى أمام العالم. ولسنا بحاجة إلى سرد ما جرى لصورة إسرائيل بسبب حرب الإبادة التى تشنها على غزة، والتى من ضمنها اختراق وقف إطلاق النار 875 مرة حتى 23 ديسمبر الجارى![1] الشاهد أن احترام التوافقات الصادرة عن المنظمات الدولية يؤثر على الاتزان الاستراتيجى وله كلفة باهظة فى حال إهماله. هذا ما تقوله النظرية الليبرالية فى العلاقات الدولية.
اختصارا، نقول إن الاتزان الاستراتيجى هو عنوان لسياسة خارجية تعمل على تحسين موقف الدولة وموقعها فى توزيع القوة، بمعنى التأثير، والهدف هو تحقيق أهداف الدولة العليا. وما أردناه من هذا المقال هو الاقتراب من المفهوم بطريقة تشرح أبعاده.
النص الأصلى: