المستقبل لنا جميعًا.. أليس كذلك؟ - جميل مطر - بوابة الشروق
الأربعاء 5 نوفمبر 2025 10:12 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يحسم السوبر المصري؟


المستقبل لنا جميعًا.. أليس كذلك؟

نشر فى : الأربعاء 5 نوفمبر 2025 - 8:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 5 نوفمبر 2025 - 8:00 م

المتابع للرئيس دونالد ترامب لا يضجر ولا يمل. أتصور أنه بدون شك ساهم فى تسهيل عملية مراقبة انتقال العالم إلى طور جديد ومختلف. صحيح أنه ليس اللاعب الأفضل فى هذه المرحلة من لعبة تدوير النظام الدولى، لكنه بالتأكيد اللاعب أو الطرف الأكثر تشويقًا وإمتاعًا. هو النموذج الأمثل للسياسى الملتزم عقيدة ونظرية القوة فى السياسة الدولية والرافض تمامًا بل والكاره كرهًا مقيتًا للنظرية الأخلاقية.

 


أتابعه بامتياز، وبخاصة بعد أن تأكدت أنه بأفعاله وأقواله اجتمع من بين من احترفوا النقد الساخر فى الولايات المتحدة أشهرهم فى حدة اللسان وعمق السخرية ورقى الكلمة، اجتمعوا ضده فى سابقة يقال إنها الأولى فى تاريخ هذا الفن الرفيع من فنون المعارضة السياسية فى دول تلتزم فى دساتيرها وقوانينها مبدأ حرية التعبير.
وقعت على أعمال هذه الجماعة الرائعة وأنا ساع نحو معرفة أوفر بما يدور فى عقل رئيس أهم دولة فى العالم، وبخاصة نحو التعرف على خططه للمستقبل، مستقبل بلاده، لأكتشف خلال سعيى أن مستقبله الشخصى يأتى عنده قبل مستقبل أى شخص أو شىء آخر. اكتشفت أيضًا خلال آخر تجربة لى فى هذا السعى أننى صرت أقرب كثيرًا إلى المستقبل من كل مرة مارست فيها هذا السعى. أكاد، مع قليل من المبالغة، أرى المستقبل بالعين المجردة وبالتحليل الهادئ وبفهم أعمق لتفاصيل الواقع الذى نعيشه.
• • •
عندما نتابع الرئيس الأمريكى، نتابع حركته وأسلوبه فى حكم الناس ومنظومة مبادئه وأولوياته فى الحياة، نتأكد من أن أهم دوافعه على الإطلاق هى تضخيم مظاهر القوة كأداة لفرض درجة أو أخرى من الهيمنة على " الزبون " أو العميل أو المنافس أو الضحية أو المواطن أو حتى شريك العمل. أشفقت، أوقل أشفقت أنا وغيرى، على هؤلاء الشركاء. أشفقنا بالتأكيد على آخرهم وكان رئيسة وزراء اليابان، السيدة ضعيفة البنيان خفيضة الصوت يابانية السلوك والثقافة والآداب، فى مواجهة رجل فى هيئة عملاق يقبض على يدها بقبضة حديدية ويهزها بعنف ويجذبها نحوه غير مبال بأنوثتها، ليذكرنى بما فعله قبل أسبوعين مع شريك آخر وهو جورجيا ميلونى رئيسة وزراء إيطاليا خلال انعقاد قمة السبعة.
حتما، بمثل هذا السلوك يفرض الرئيس ترامب علاقة تبعية بين القوى والضعيف، رأيناها فى عيون السيدتين وعيون رجال كلهم زعماء فى بلادهم، كمقدمات تسبق أى مفاوضات ومساومات أو صراع إرادات. أحد هؤلاء الرجال الزعماء حمل معه من بلاده مضرب جولف مكسو بالذهب الخالص، رجل آخر، وهو أيضا زعيم فى بلده اكتشفنا أنه مثلنا متابع للرئيس الأمريكى ومواظب على مشاهدة فريق السخرية الأمريكى، لم ينتظر زيارة لبلاده من جانب الرئيس ترامب حتى أنه جاء إلى الاجتماع الآسيوى ومعه تاج من الذهب مزود بالمجوهرات الثمينة أهداه للرئيس ترامب فى حضور جميع الزعماء، استرضاء أو لعله كما قال زميلى فى المتابعة، مشاطرة فى السخرية. الملفت أن هذا التاج تسلمه الرئيس الأمريكى بعد أن جرت فى أكثر من 2700 مدينة أمريكية مظاهرات تعلن رفض الشعب الأمريكى مساعى ومحاولات الرئيس التشبه بالملوك. انتخبوه ليكون رئيسًا لجمهوريتهم لا ليكون ملكًا عليهم.
• • •
هناك فى سيول وقع اللقاء الذى انتظره الجميع، وأقصد بالجميع كل العالم. وهو اللقاء بين رئيسى الدولتين الأكبر فى عالمنا المعاصر، الولايات المتحدة والصين الشعبية. لم يحاول الرئيس فى بداية اللقاء استخدام العنف مع اليد الصينية التى امتدت لتصافح اليد الأمريكية التى كانت ممدودة فعلًا فى انتظاره. رأينا أيضًا عينين صينيتين تصبان فى العينيين الأمريكتين فيضًا من الإرادة يعكس موقفًا مسبقًا معدًا بثقة وصلابة. لم يظهر فى اللقاء أن طرفا يحاول فرض إرادته على الآخر. كانت مساومة دبلوماسية تقليدية فرضها الرئيس الصينى. جاء الأمريكى يحمل تراجعًا عن قرار فرض نسبة عالية من التعريفات الجمركية على وإردات بلاده من المنتجات الصينية، وجاء الصينى يحمل إلى المزارعين الأمريكيين بشرى عودة الصين مؤقتًا عن قرار وقف استيراد فول الصويا من أمريكا.
جدير بالذكر أن الرئيس الأمريكى أساء إلى جمال اللقاء ودبلوماسية المحتوى عندما حاول الكشف عن خفة ظل أصلًا هى غير متوافرة فى شخصيته. حدث هذا عندما استطرد الرئيس على غير المعتاد فى اللقاءات المماثلة مع الصينيين، قائلًا: «إن الرئيس الصينى مفاوض جيد، لكن هذا غير جيد لنا». لم يظهر على وجه الرئيس الصينى انه استعذب هذا التعليق ولا أرتاح إليه أعضاء الوفد الصينى ووفود آسيوية أخرى. أنا شخصيًا بخبرة متواضعة فى الدبلوماسية وجدته غير مناسب.
• • •
يذهب الرأى الغالب إلى مثل رأيى الشخصى، وهو أن أمريكا خرجت بالتأكيد الطرف الخاسر فى أول مواجهة كبرى بين الدولتين الأكبر والأقوى على الساحة الدولية. اتضح لنا ولكثير من المتابعين أن الصين لعبت بمهارة أوراقها التى استعدت بها لمواجهة عظمى اختار ترامب بنفسه زمانها ومكانها، اختار لها أن تأتى فى مرحلة هى الأسوأ فى مراحل تطور شعبيته داخل بلاده، وأن تجرى فى منطقة هى الأهم على الإطلاق لكلا الطرفين ولمستقبل العلاقة بينهما.
قضت المواجهة بأن تحصل أمريكا على كميات محدودة من كنوز المعادن اللازمة لصناعات عديدة حيوية كالغواصات وبطاريات السيارات وعديد أنشطة الطاقة اللازمة لعمل معامل واستخدامات التطورات الأحدث فى تقنيات الذكاء الاصطناعى وغيره. فى المقابل خرجت الصين التى لم تقدم أكثر من وعد بصادرات محدودة الكميات والأنواع من المواد الخام الاستراتيجية والنادرة فى أوقات تحددها بكين، وهى واثقة من أن أمريكا لن تجد بديلا لها فى هذا المضمار، ومطمئنة إلى أنها، أى الصين، لن تجد صعوبة فى شراء فول الصويا من دول أخرى فى حال حاولت واشنطن فى أى وقت حرمانها من منتجاتها الزراعية وبخاصة فول الصويا.
• • •
أتصور أن الرئيس ترامب ذهب إلى قمة الآبيك متمنيًا لو تمكن أن يحتفظ لأمريكا بموقع الدولة الأعظم و«المهيمنة» تنفيذًا لشعاره الذى جاء به إلى الحكم وهو «استعادة عظمة أمريكا»، وفى ظنى أن هذا الأمل أو الهدف خاب. لم أتصور يومًا الصين قطبًا أوحد مهيمنًا، كما كانت الولايات المتحدة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، كما أننى لم أتصور أن يومًا قريبًا سيأتى أرى فيه الولايات المتحدة واحدة من ثلاثة أقطاب، أو حتى تسعى لتكون قطبًا بين أقطاب آخرين فى نظام دولى جديد.
فى ظنى أيضًا أن ترامب وجماعته فى البيت الأبيض وخارجه سوف يعملون بأقصى جهد وإمكانيات لمنع حدوث هذا الاحتمال، يمنعونه بغرس وقيعة بعد أخرى بين الصين وروسيا. غير خاف على كل حال كثير من تحليلات علماء العلاقات الدولية الذين ينتظرون الظروف تتغير فتسمح بأن تلعب أمريكا دور الموازن بين القطبين الآخرين، أسوة بموقع «القطب الموازن»، الذى احتلته ومارسته بجدارة الإمبراطورية البريطانية فى ظل نظام توازن القوى فى القرن التاسع عشر، النظام الأقرب شكلًا من نظام الأقطاب المتعددة.
• • •
هل لنا نصيب معقول فى هذا المستقبل؟ أقصد هل يتعين علينا الاستعداد للعب أدوار على مقاس أحجامنا وإمكاناتنا أم نعيد الكرة فننتظر لنقبل ما يفرض علينا؟

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي