لم يكن فى القاهرة من يقول: «أنا قاهرى». فعند سؤال «أنت منين؟»، كانت الإجابة تحمل دومًا اسم محافظة أخرى. القاهرة بوتقة ينصهر فيها الجميع. نادت على الصعيدى، واستقبلت ابن أخيه البورسعيدى، أما «القاهرى».. فمن هو؟
• • •
فى الماضى، خرج أبناؤها بأسماء أحيائها. نجيب محفوظ، ابن حى الجمالية، وأبناء المعادى مثل فرقة «كايروكى»، الذين استطاعوا من خلال الموسيقى أن يلتقطوا روح كايرو بخيوط عنكبوتية شفافة كتلك التى تظهر على قطعة أثاث قديمة تراكم عليها التراب.
• • •
كايرو خرجت من رحم «قاهرة المعز». السائح يسمع عن هذه القاهرة، فيحزم أمتعته شوقًا لزيارتها، لكنه يخشى «كايرو» التى لا يعرف عنها شيئًا، ويحسب لها ألف حساب.. لأنها ستزوره حتمًا إذا اقترب من لؤلؤتها الثمينة. فهى المدينة التى تُحملك إلى الماضى دون بوابة أو آلة زمن.
• • •
أهل كايرو يعرفونها جيدًا. لا يتحدثون عنها، بل يحكون عن أنفسهم: عن تجاربهم، آلامهم، وعن الإرهاق الذى لا ينتهى. يخلطون الضحك بالوجع، ألمٌ منتظم يشبه الصداع، لكنه ليس بالضرورة فى الرأس.
إنها كايرو.. مدينة التركيب والركب والكراكيب.
كايرو.. الدوران، والتوهان، والنسيان.
• • •
هنا، فى هذه المدينة، أُصيب المكان والزمان بالحيرة. فقدا معًا بطاقات الهوية، وتعبا من طول السفر، فجلسا يطلبان غداءً بسيطًا على ناصية من نواصيها.
فى كايرو، على كل شارع، عربة طعام، عربة شراب، مقهى، جلسة طويلة، وحديث لا ينتهى. الصخب هو العلامة الفارقة، العلامة التى كان يجب على الزمان أن يُذَكّر بها المكان، لكنه نسيها.
«وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره».
• • •
لا بأس بصباح يمشى فيه الباعة بحثًا عن الفانى والبالى ليشتروه بثمن بخس وهم عنه زاهدون. هم صخب فوق صخب.. مطرقة الزمان، كما أن المكان اختار لنفسه مطرقة.
كل شىء يفنى: الكتب، الأثاث، الأجهزة الحديثة.
لكن فى كايرو، الصخب لا يفنى.
كايرو.. تَذْكرة.
• • •
فى كايرو، العصافير تحمل الحلم، الأمل، والبهجة، قادمة من الأزل، فى اتجاه سرمدى نحو الرزق. أما الناس، فيطوفون فى ميدان العلم والتقدم وتطور الأمم، ولا يصيبهم منه إلا عبق عابر، مثل رائحة البخور المنثور فى أزقة خان الخليلى، وعند مقامات آل البيت فى شوارع المحروسة.
و«كايرو» أيضًا محروسة.
حُرّاس، حراسة، وكلاب تنبح بلا أصحاب، يُحسبونها ضالة، لكنها تبسط ذراعيها بالوصيد.
كايرو.. مدينة لا تحلم، لا تنام، لا تزدهر، ولا تثور. كل شىء فيها عابر سبيل. ومع ذلك، تتجلى فيها، فى لحظات، معانى الرحمة والعطاء، لا بظل الخير، بل بخيره ذاته.
• • •
اضبط ساعتك، فى ليل أو نهار، هناك من يشعر بألمك، بضعفك، بإرهاقك.
هناك من يطعم، من يُكرم الضيف، من يساعد، من يقضى الحاجة، من يبتسم، ومن يضحك.. حقًا، من القلب.
كايرو مليئة بالأطفال، بالأجداد، والجدات. وبينهم أجيال وأجيال، تعرف من وجوههم أن اللقاء بين المكان والزمان لم يكن مصادفة.
وأن فقدان بطاقات الهوية.. لم يكن مجرد سوء حظ.
إنها العثرة عند الصخرة.
لا يمكنك أن تتجنبها إذا كانت مكتوبة لك.
لكن يمكنك أن تقوم بعدها، وتنهض من جديد.