تشهد دول منطقتنا عملية إعادة صياغة للعلاقات الثنائية والإقليمية يحركها بالطبع اندلاع الثورات العربية وردود الفعل عليها، ولكن أيضا تطورات أخرى مختلفة بدأت تتفاعل منذ عدة سنوات. ففى ظل التوترات الحادة التى برزت بين تركيا وإسرائيل بدأت العلاقات تنشط بين إسرائيل واليونان.
من جانب إسرائيل شكلت هذه العلاقات تعويضا عن الشرخ الذى أصاب علاقاتها مع تركيا وأيضا عامل ضغط على الأخيرة لكى تدرك أن إسرائيل لن تكون بالضرورة معزولة بسبب الأزمة بينهما. أما بالنسبة لليونان فكانت هناك بدايات الأزمة الاقتصادية المستحكمة وحسابات أخرى تتعلق بخلافات مع تركيا على مشكلة التسوية فى قبرص وعلى ملكية الجزر الصغيرة فى بحر إيجه وأيضا فيما يخص ملف المهاجرين غير الشرعيين عبر حدود البلدين. ولكن يعود الآن كلا الطرفين على ما يبدو لخطب ود تركيا من جديد. والمثير للأسى أن العامل الجامع هنا هو حقول نفط البحر الأبيض المتوسط بما فيها تلك الموجودة فى المياه الإقليمية لفلسطين ولبنان.
وقد شاركت مؤخرا فى مؤتمر عن العلاقات التركية اليونانية وتأثير التطورات الأخيرة عليها نظمه مركز دراسات جنوب شرقى أوروبا فى جامعة أوكسفورد واستضافته جامعة باهتشى شهر فى مدينة إسطنبول التركية. ودعيت إليه شخصيات يونانية وتركية بارزة فى المجالين السياسى والأكاديمى. وجرت المناقشات على عدة محاور منها المثلث التركى اليونانى القبرصى، والعلاقات التركية العربية والإسرائيلية، والعلاقات اليونانية الإسرائيلية.
كانت الخلفية المهمة لهذا اللقاء ما يبدو من صراع متصاعد بين تركيا من جانب وإسرائيل واليونان وقبرص اليونانية من جانب آخر بعد أن بدأت الأخيرة فى التنقيب عن النفط فى محيطها الشرقى وسط اعتراضات من رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان على انفرادها بذلك. نشأ هذا الخلاف فى الأعوام الأخيرة حين اكتشفت شركة «دلك» الإسرائيلية بالتعاون مع شركة «نوبل» الأمريكية حقولا للنفط فى مياه المتوسط وأطلق عليها أسماء عبرية. ثم توجهت إسرائيل العام الماضى إلى قبرص واليونان لمناقشة التوسع فى التنقيب لا لتواجد الحقول بالقرب من قبرص وحاجة إسرائيل لبناء محطة للتنقيب فى محيطها فحسب ولكن أيضا لضمان البلدين كنافذتين لها على الأسواق الأوروبية.
وبالفعل أقيمت فى العام الماضى منطقة اقتصادية خاصة بالدول الثلاث. وقد ردت حكومة تركيا الأسبوع الماضى على ذلك بإرسال سفينة أبحاث إلى المنطقة موجهة بذلك رسالة واضحة. كما صرح نائب رئيس الوزراء التركى بولنت ارنش بأن لتركيا حقا فى التنقيب فى المنطقة وأنه لا يحق لإسرائيل تجاهل الأطراف المعنية الأخرى مذكرا أنه لا يجوز الشروع فى مثل هذه الأنشطة قبل تسوية المشكلة القبرصية. وهنا نذكر أن من هذه الأطراف المعنية إلى جانب قبرص التركية لبنان العربى الذى اتهم سياسيوه إسرائيل بالسرقة ورفعوا إلى الأمم المتحدة مذكرات عدة بخصوص التعدى على مياههم الإقليمية كما لوحت إيران بمساندتها لهم فى ذلك.
●●●
هكذا نشهد ازدياد التقارب اليونانى الإسرائيلى بعد التدهور الملحوظ فى العلاقات التركية الإسرائيلية خصوصا بعد أن أوقفت تركيا التدريبات العسكرية المشتركة مع الجيش الإسرائيلى فى عام 2009 فلجأ الأخير إلى الجيش اليونانى لإجراء تدريباته معه كما أصبحت إسرائيل ثانى أكبر مستورد للمنتجات اليونانية وتحولت بعض وفود السياحة الإسرائيلية عن المصايف التركية إلى شواطئ الجزر اليونانية. وتبادل رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ونظيره اليونانى جورج باباندريو عدة زيارات ودية وحرص الجانب الإسرائيلى على اجتماع ضيوفه بمسئول ملف النفط فى الحكومة.
ومما أثار الانتباه فى مؤتمر إسطنبول أن اليونان مثلت بشخصيات رسمية يغلب عليها التعاطف مع الصهيونية بينما غاب عن المشهد الشخصيات اليونانية المعروفة بالتعاطف مع القضايا العربية. وظهرت من خلال المناقشات اقتراحات ضمنية خافتة أحيانا وصريحة أحيانا أخرى بأنه قد يكون من المفيد لتركيا أن تتجاوز مشكلات العلاقات مع إسرائيل وأن تقبل بأن الخطر الحقيقى عليها يأتى من إيران وبالتالى تنضم إلى الجهود اليونانية الإسرائيلية فى عمليات التنقيب عن النفط فى البحر المتوسط. ولم يناقش أو حتى يذكر هؤلاء حقوق بقية الدول التى تطل على نفس البحر مثل سورية ولبنان وفلسطين ومصر. وظهر هنا خطر أن يجر هذا إلى أن نخسر اليونان ــ الحليف القديم لنا ــ كما خسرنا أثيوبيا.
وخلال المناقشات كان المشاركون من الجانب التركى ينصتون إلى مداخلات اليونانيين دون التعليق. وعموما فالدوائر العلمية والسياسية التركية تنغمس منذ زمن فى عقد العديد من المؤتمرات واللقاءات وورش العمل مع شخصيات كثيرة من أطياف السياسة فى أوروبا والعالم العربى. وهذه فيما يبدو محاولات لاستكشاف الآفاق المتاحة سواء بالنسبة للمشروع التركى الأساسى وهو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى أو لإيجاد مشاريع بديلة فى الشرق الأوسط والعالم العربى أو استخدام أى من الاثنين لتحريك الآخر. وبات من الواضح من أحاديثهم أنهم يمضون فى محاولاتهم بثقة عالية وجديدة بالنسبة لليونان إذا ما تذكرنا تاريخ علاقاتهم بها. وبدا أنهم ينوون استقطاب أو استمرار الاتصالات مع كل الأطراف المعنية فى المنطقة. فالتجارة والعلاقات الاقتصادية وحتى السياحة المتبادلة مع إسرائيل مستمرة، على الرغم من إعلان تجميد العلاقات السياسية معها. وفى نفس الوقت هم يخاطبون الشعب العربى الثائر فى مصر وتونس وليبيا عن دعم قضيته فى الحرية والتحرر كما يقيمون علاقات مع المعارضة السورية من المحتمل أن تضعف دور إيران، وينفون فى نفس الوقت أن إقامة الدرع الصاروخى على أراضيهم موجهة ضد إيران. وتبدو تركيا وكأنها تهيئ نفسها لحصد النجاح فى كل الحالات.
●●●
أما إذا عدنا لما يخصنا كعرب فالمشاركون فى المؤتمر من الأتراك، وبرغم حديث وزير خارجيتهم البارع أحمد داود أوغلو عن المحور التركى المصرى أو كما أسماه «محور البحر الأسود ونهر النيل»، فإن معظمهم كان يتساءل عما يمكن أن يتضمنه أو يشير إليه هذا المحور فى الوقت الذى تمر فيه مصر بمرحلة انتقالية دقيقة «جمدت مؤقتا دورها الإقليمى» على حد تعبيرهم. بينما كان موقف المشاركين اليونانيين أشد قسوة حيث استبعدوا وجود دور مؤثر لأى من الدول العربية فى المستقبل القريب.
كل هذا ليس إلا دليلا آخر على ضرورة أن نرصد كعرب ما يجرى من حولنا بحرص وخصوصا بين اليونان وإسرائيل لمحاولة تلافى أى خسارة يجلبها علينا هذا التقارب. كما أنه لابد أن نتعامل مع تركيا معاملة الند للند كى نتمكن من الحفاظ على مصالحنا سواء بالتعاون أو التنسيق معها أو بدونها إذا تراجعت عن مواقفها الحالية.
كل هذا يتطلب بدوره أن ننتهى فى مصر من هذه المرحلة الانتقالية بأسرع ما يمكن وبحيث تخلف لنا فى دوائر السلطة والخارجية بالذات صانعى سياسة يدركون بحق أبعاد الأمن القومى. وعندها تعود مصر قوية متماسكة قادرة على التأثير بثقلها على كل هذه المحاور بين دول المنطقة بما يحمى مصالحها ومصالح العالم العربى ككل.