ستون عاما على قيام الجمهورية العربية المتحدة - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 12:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ستون عاما على قيام الجمهورية العربية المتحدة

نشر فى : السبت 24 فبراير 2018 - 9:45 م | آخر تحديث : السبت 24 فبراير 2018 - 9:45 م

حلت منذ أيام الذكرى السنوية الستون للإعلان عن دمج كل من جمهورية مصر والجمهورية السورية فى الجمهورية العربية المتحدة. هذه مناسبة قيمة للتفكر فى أحوال المنطقة العربية والشرق الأوسط الأوسع الذى تقع فيه. هذا التفكر يمكن أن ينقسم إلى ثلاثة أقسام تتناول الظروف المؤدية إلى إعلان الوحدة المصرية السورية، والوضع الحالى فى المنطقة وهو محصلة العقود الستة الماضية، وأخيرا استشراف المستقبل واحتمالاته.

الخطاب الصادر عن الرئيس جمال عبدالناصر كان قد بدأ فى الانطباع بلون عربى، وفى الأخذ بمصطلحات من قاموس القومية العربية منذ ما قبل 1958 بنحو ثلاث سنوات، وهو ما كان غائبا فى السنوات الأولى بعد سنة 1952 وعن أهداف الثورة الستة. وعلى الرغم مما جد على خطابه، فإن جمال عبدالناصر لم يكن المبادر بطرح فكرة الوحدة الاندماجية المباشرة بل إنه قاومها عندما جاءت بها وضغطت من أجلها مجموعة من ضباط الجيش السورى ومعها حزب البعث العربى الاشتراكى، وهو فضل عليها الخطوات التدريجية المؤدية إلى الاتحاد.

كانت ثمة تهديدات خارجية وداخلية تهدد استقرار النظام السياسى السورى فى نهاية سنة 1957 وبداية 1958، ولكنه بعد مرور ستة عقود يمكن لمنظور تاريخى أن يدلنا إلى أن عدم الاستقرار وَسَمَ الجمهورية السورية منذ انتهاء الانتداب الفرنسى عليها وتحقيقها لاستقلالها الفعلى فى سنة 1946. أول مظاهر عدم الاستقرار كان حرب فلسطين وهزيمة الجيوش العربية فيها، فسوريا هى «قلب العروبة»، ويذكر فى هذا المقام أن ضابطا سوريا ــ فوزى القاوقجى ــ هو الذى أسس وقاد جيش الإنقاذ من المتطوعين للذود عن فلسطين. ثم كانت الانقلابات العسكرية المتتالية منذ نهاية الأربعينيات وفى الخمسينيات الأولى والتوالى على رئاسة الجمهورية، والحكومات التى ما كانت تنشأ إلا لتسقط. كانت الفسيفساء الدينية والطائفية والعرقية موجودة ولكنها لم تكن سببا لعدم الاستقرار. وكانت ثمة تجاذبات بين يمين ويسار ولكن لا يبدو أنها كانت هى الأخرى المسئولة الأولى عن عدم الاستقرار. ربما كان الاضطراب مزروعا فى التنازع حول شرعية الدولة الوطنية السورية أساسا. سوريا هى أرض القومية العربية وهى الوريثة لفكرة الدولة العربية الواحدة، هذه الفكرة التى تنعى ما يسمى فى أدبيات القومية العربية «واقع التفتت».

***

هذا يمكن أن يفسِر إنه عندما تفاقم الاضطراب فى الدولة الوطنية السورية، لاذ ضباط جيش «القاوقجى» ومعهم حزب البعث، وهو عصارة النظرية القومية فى المنطقة العربية، بفكرة الوحدة ظانين أن فيها الخلاص وأنها ينبوع الاستقرار. فاتهم أن فكرة الدولة العربية منذ عهد الشريف حسين لم تكن تشمل مصر التى طورت النخبةُ فيها ثقافة سياسية خاصة بها نتيجة لتطورها السياسى المنفصل منذ بدايات القرن التاسع عشر ونشأة أُسُسِ الدولة الوطنية ثم الدولة الوطنية بها، حتى وإن كانت دولة منقوصة الاستقلال ذات نظامٍ سياسيٍ مهددٍ باستمرار. فى هذا تفسيرٌ للموقف المتردد لجمال عبدالناصر من فكرة الوحدة الاندماجية على الرغم من خطابه «العروبى». جمال عبدالناصر ثار على النخبة الحاكمة فى مصر ولكنه، فى نهاية المطاف، كان نتاجا لها، أو كان من واحدة من مكوناتها.

فكرة جمال عبدالناصر عن الوحدة هى تطوير لفكرة «الوفد المصرى» بل وأحزاب أخرى فيما قبل ثورة 1952 عن العمل العربى المشترك والتى أدت، بدعوة من مصر، إلى نشأة جامعة للدول العربية، وليس جامعة عربية. نهاية الوحدة بعد نشأتها بثلاث سنوات تثبت أن جمال عبدالناصر كان على حق فى تردده، ولكن خطابه ورطه فى قبول ما لم يكن فى حسبانه. تجربة الوحدة نفسها فيها بيان جلى على خطأ الدمج التعسفى لأنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة حتى وإن كان بين بلديها عروبةٌ مشتركة وتجمع شعبيها وثائقٌ ثقافية واجتماعية وعاطفية وتاريخية عميقة لا شكَ فيها.

***

فى الستين عاما المنقضية منذ ذلك الحين، مرت مياه كثيرة تحت الجسور كما يذهب التعبير الذى صار مأثورا. ما الذى حدث فى هذه العقود الستة؟ سادت السلطوية فى مصر وسوريا وغيرهما من الدول العربية، وهى فى سوريا اختلطت بالطائفية والأسرية، ولم تنازع الفكرةُ القوميةُ الوحدويةُ وحدها الدولةَ الوطنيةَ على الشرعية بل دخل الإسلامُ السياسى بمدارسه المتنوعة على الخط فأنكر الشرعية على الفكرة القومية العربية والدولة الوطنية معا، وبلغ هذا الدخول ذروته فى سوريا نفسها وكان له نصيبٌ كبيرٌ فيما حاق بسوريا والسوريين من دمار وتشريد فى السنوات السبع الأخيرة. أما الفكرة القومية العربية تحديدا فلقد تلقت ضربة قاصمة فى سنة 1967، ولأن الفكر القومى، وليس فى المنطقة العربية وحدها، تُعوِزُهُ الاستراتيجية المركبة والبدائل، فإنه لم يستطع التعامل مع آثار الضربة فبدت قاضية، وهو ما هيأ الأرض كذلك للإسلام السياسى. ضربات أخرى تلقاها الفكر القومى العربى كانت من آثار أفعال حملة مشاعله مثلما حدث من جراء غزو صدام حسين للكويت وتبعات هذا العزو التى امتدت حتى احتلال الولايات المتحدة للعراق وتفكيكه إلى مكوناته الطائفية والعرقية، أو المواقف والتصرفات البائسة لمعمر القذافى. كل تقويض للفكرة القومية كان فى صالح الإسلام السياسى.

أما الدولة الوطنية التى تصهر مجموعاتها الدينية والطائفية والعرقية وتجعل من أعضاء هذه المجموعات مواطنين متساوين لا تمييز بينهم، فهى لم تفز شيئا من تقويض الفكرة القومية، حيث أن الدولة الوطنية، وحتى تزدهر، لا بد أن تكون ديمقراطية. المساواة وعدم التمييز هما مفهومان ديمقراطيان أساسا. أما وأن السلطوية قد تفاقمت وطأتها فى المنطقة العربية، فإن الدولة المفترضة «وطنية» ارتدت إلى التمييز الدينى أو الطائفى، أو الفئوى لصالح أعمدة الحكم فى هذه الدولة أو تلك والمستفيدين منه.

***

ما هو الوضع الآن فى المنطقة العربية والشرق الأوسط الأوسع وما الذى يمكن أن يحدث؟ فى المساحة المحددة لهذا المقال سنكتفى بالوضع فى سوريا الذى يمكن اعتبار أنه يلخص إشكاليات المنطقة ويقدمها فى أكثر صورها فجاجة. بخطوط عريضة يمكن رسم صورة ممزقة لسوريا نزح عنها زهاء ربع سكانها وتمرح فى إقليمها وتقيمُ قواعدَ قواتٌ أمريكية وروسية وتركية وإيرانية، وتشكيلاتٌ من حزب الله اللبنانى، فضلا عن المقاتلات الإسرائيلية ترتع فى أجوائها. القوة الأكبر فى العالم والقوة العسكرية التالية لها، والدول غير العربية الثلاث فى الشرق الأوسط موجودة فى سوريا، بينما لا يصل السوريون إلى توافق على الصيغة التى يعيدون بها بناء دولتهم ونظامهم السياسى ومجتمعهم. يبدو للمراقب أن إعادة بناء سوريا مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتأسيس لعلاقات يمكن توقع مساراتها بين دول الشرق الأوسط. بعبارة أخرى، دولة سورية مستقرة تتوقف على نظام للعلاقات المستقرة بين دول الإقليم. ولكن، هل مثل هذا النظام الإقليمى ممكن؟ المرحلتان الأوليان المشار إليهما أعلاه طبعتهما إسرائيل بشكل حاسم أولا بنشأتها فى سنة 1948 ثم بانتصارها فى عام 1967. فماذا عن المرحلة التى عددناها فى هذا المقال تبدأ الآن؟ تصادف مرور ستين عاما على قيام الوحدة مع الإعلان عن صفقة الغاز الإسرائيلى الذى تشترى منه مصر ما قيمته 15 مليار دولار خلال فترة عشر سنوات فيما يمكن اعتباره أهم تطور فى العلاقات المصرية الإسرائيلية منذ زيارة الرئيس أنور السادات للقدس فى سنة 1977. هل هذه بداية تعاون معلن بين أكبر دولة عربية وإسرائيل؟ فإن كان، هل يتصوره طرفاه ثنائيا فقط أم نواة لتعاون يشمل دولا عربية أخرى بالإضافة إلى إيران وتركيا؟ ولأن الحديث تطرق إلى الغاز، وهو المستخرج من شرق البحر المتوسط، فماذا عن موقفى اليونان وقبرص التى نشأ نزاع بينها وبين تركيا بشأن هذا الغاز؟ المنطقة العربية تتوسع إلى الشرق الأوسط ثم تمتد إلى شرق المتوسط. أى نظام إقليمى فعال لا بد أن يشمل شرق المتوسط أيضا. القضايا هى التى تحدد نطاق أى نظام وأطرافه. إن نظاما إقليميا يعيِن حدود أدوار كل الدول الأطراف فيه، والدول الكبرى كذلك، ويكفها عن تقويض بعضها البعض، لا غنى عنه ليمكن إعادة بناء سوريا، ولضمان أمنها واستقرارها وهو ما ينطبق كذلك على لبنان والأردن والعراق، ولتثبيت شرعية كل هذه الدول.

ولكن ماذا عن فلسطين والشعب الفلسطينى؟ لن يمكن تطير تعاون مستدام ولا بناء نظام إقليمى مستقر مادامت القضية الفلسطينية باقية دون تسوية يقبل بها الشعب الفلسطينى. أى نظام إقليمى لا ينشئ هذه التسوية سيحمل فى ثناياه بذور الاضطراب والصراع. هذا ليس من باب التزيد وإنما هو على سبيل الدعوة إلى انتهاج السياسات العملية. التعويل على إخماد صوت الشعب الفلسطينى بالقوة كما تقمع أصوات شعوب عربية أخرى لن يجدى. مقاومة الاستعمار، خاصة الاستعمار الاستيطانى التمييزى، لها شرعية يصعب التصدى لها لأنها تحدث أصداء فى العالم كله.

فى سنة 1958، نشأت الجمهورية العربية المتحدة فى محاولة للقفز على أسباب تهاوى النظام السياسى السورى فى شرق أوسط مضطرب. فى سنة 2018 وما بعدها، لا يتصورن أحدٌ أنه يستطيع القفز على أهم القضايا العربية فى القرن الماضى، القضية الفلسطينية، فى محاولة لبناء نظام إقليمى أو حتى لمجرد التعاون فى بيئة أكثر اضطرابا.

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات