أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة إعلانا دستوريا فى مارس 2011، تم إدارة المرحلة الانتقالية «الأولى» وفق نصوصه حتى صدور دستور 2012، والذى تم «تعطيل» العمل به عقب 30 يونيو 2013.
ثم قام المستشار عدلى منصور، رئيس الجمهورية المؤقت، باصدار إعلان دستورى جديد فى 8 يوليو 2013، سيتم حكم البلاد وفق مواده الثلاثة والثلاثين حتى ننتهى من ما يصطلح عليه اليوم باسم المرحلة الانتقالية «الثانية».
وما أن صدر إعلان 8 يوليو هذا، إلا وكان محل اعتراضات جوهرية لكل من غاب عن مشاوارت صياغته، سواء من تمرد، أو جبهة الإنقاذ، أو الدكتور البرادعى شخصيا، حتى تصورت فى فداحة المصاب ما سيجعل من تعديل الإعلان الدستورى شرطا لتكليف الوزارة، أو يقيم من مطلب التعديل أجلا لا يجوز حلفان اليمين من دونه.
لم يحدث ووجدت نفسى كالمعتاد أتابع المراسم المنقولة من قصر الاتحادية فى حالة من الذهول الدستورى.. فعلى أى يمين كان حلفان رئيس الجمهورية المؤقت بعد «تعطيل» العمل بدستور 2012؟ وعلى أى إعلان دستورى وقفت حكومة الببلاوى ومن قبلها البرادعى فى قسم بالله أمام المستشار عدلى منصور؟
فى ماذا كانوا يحلفون؟ على احترام إعلان 8 يوليو 2013 والعمل بأحكامه؟ ولماذا الفزع من مثل هذا الحلفان؟
●●●
الإجابة عن هذه التساؤلات وجدتها فى تقرير مفصل أصدرته الجماعة الوطنية لحقوق الإنسان تحت عنوان «إعلان دستورى استبدادى وباطل»، صحبته بجدول يقارن مواد إعلان 8 يوليو وما سبقه فى دستور 2012، وما قبلهما من مواد إعلان 2011.
يأخذ التقرير على الإعلان الدستورى من الناحية الشكلية غياب أى اشارة للإرادة الشعبية فى ديباجته، حيث اكتفى من صاغ الإعلان بالإحالة فقط إلى بيان القيادة العامة للقوات المسلحة، الكاشف لإرادة الجماهير فى 30 يونيو لا المنشئ لها، فعدنا بذلك إلى تكييف الأمر على أنه انقلاب عسكرى، لا ثورة استرد الشعب فيها سلطاته.
هذا التخفظ الشكلى كانت له من الدلالة الكثير، مثل تجاهل الإعلان وضع نصوص تتعلق بالبدء فى عملية العدالة الانتقالية، لمحاسبة كل من تورط فى قتل وإصابة المصريين فى عهد نظام «مبارك»، أو فترة حكم «المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، أو من بعدهم المجرمون فى نظام «مرسى»، كما غابت أى اشارة لإعادة هيكلة وتطهير مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الشرطة وماسبيرو، أو وضع أى أسس تليق بهذا الإعلان واللحظة الراهنة فى تحقيق المصالحة الوطنية.
كل هذا غاب شكلا من إعلان 8 يوليو، فكان مدعاة للتشكيك فيه موضوعيا، وقد رصد تقرير الجماعة الوطنية ست ملاحظات فى هذا الشأن، جميعها غاية فى الخطورة، وتلخيصها كالآتى:
●●●
أولا: شرعنة الإجراءات الاستثنائية، وتراجع خطير فى الحقوق والحريات، بما يشى عن نية مبيتة للإجهاز على الرئيس المعزول وأنصاره، ومن بعدهم أى فصيل فى المعارضة يعن لرئيس الجمهورية ملاحقته.
فقد حذف إعلان 8 يوليو كل ما ورد بدستور 2012 من حد أدنى لضمانات الحياة فى دولة القانون، فتجاهل النص على ضرورة دفع التعويض فى نزع الملكية للمنفعة العامة، وحذف شرط صدور أمر قضائى مسبب لمراقبة المراسلات البريدية ووسائل الاتصال، وحذف ضمانة الإبلاغ عن أسباب القبض خلال 12 ساعة، وحذف ضمانة العرض على النيابة خلال 24 ساعة، وحذف ضمانة التعويض عن الحبس الاحتياطى، وحذف ضمانة حظر مراقبة المساكن والتنبية على السكان قبل تفتيش منازلهم، وأخيرا وليس آخرا حذف الضمانة الخاصة بحظر الإقامة الجبرية إلا بأمر قضائى مسبب، ليصبح مرسى هو أول ضحايا غيابها، ولا يوجد ما يمنع دستوريا من وضع آخرين تحت الإقامة الجبرية أيضا.
كذلك رصد تقرير الجماعة ما يجعل من الطوارئ سببا لتقييد الإعلام، وحذف ضمانة صدور حكم قضائى لغلق أو وقف القنوات، ولا يخفى على القارئ كيف كانت تلك المحسوبة على تيار الإسلام السياسى هى أول ضحايا غياب هذه الضمانة من إعلان 8 يوليو.
يضاف لما سبق تقييد الإعلان لحقوق العمال فى التعددية النقابية، بعكس الدستور 2012 المعطل، ومنها الحق فى الإضراب السلمى وتجريم الوساطة فى تولى الوظائف العامة، والإخطار كوسيلة لإشهار الجمعيات والأحزاب، وحظر فرض الحراسة على النقابات، وحذف المادة الخاصة باشتراط وجود حكم قضائى لحل الجمعيات، وإضافة قيد فضفاض يتعلق بحظر إنشاء جمعيات معادية للمجتمع أو ذات طابع عسكرى، فضلا على تجاهل النص على الحق فى تكوين التعاونيات والنقابات.
●●●
ثانيا: أبقى إعلان 8 يوليو على الوضع المميز للقوات المسلحة فى دستور 2012 المعطل.
فقد ظلت موازنة القوات المسلحة تناقش فى مجلس الدفاع الوطنى والذى تم إحالة تشكيلة للقانون، كما حذف من الإعلان الدستورى النص الخاص بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو ما يتوافق مع إدارة القيادة العامة للمشهد الحالى.
كذلك أعطى الإعلان الدستورى للمحاكمات العسكرية للمدنيين شرعية وذلك عبر حذفه لقيد شكلى ورد فى المادة 198 من دستور 2012 المعطل، والخاص بمنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية إلا فى الجرائم المضرة بالقوات المسلحة، بما يفتح المجال لمحاكمات استثنائية وعسكرية فى المرحلة الانتقالية.
●●●
ثالثا: نزع الإعلان الدستورى صفة الهيئة القضائية عن النيابة الإدارية وقضايا الدولة، مع الابقاء على تمتع أعضائها بضمانات القضاة المقررة.
ويثير ذلك التعديل شكوكا مشروعة حول حيادية منصب رئيس الجمهورية، وتأثُر شاغله بكونه قاضيا ورئيسا للمحكمة الدستورية العليا، وفى أمر يعلم الجميع أنه كان ولا يزال محل خلاف؟
فقد حصنت المادة 20 من الإعلان جميع القوانين المنظمة لشئون الهيئات القضائية عن التعديل خلال مدة سريانه، الأمر الذى يقطع الطريق على إصدار قوانين استقلال القضاء أو ضحايا المحاكمات العسكرية من المدنيين مثلا، فضلا على إعطاء رئيس الجمهورية المؤقت الحق فى اختيار النائب العام بإرادة منفردة، مثلما فعل مرسى ومبارك من قبله.
ومن المفزع هنا رصد التقرير لمقدار التناقض بين تفسير «مواد التحصين» هذه على أنها رغبة من رئيس الجمهورية فى الترفع عن تعديل قوانين السلطة القضائية التى ينتمى إليها، بينما هو قد قام بذلك فعلا فى الفقرة الثالثة من المادة 16 من الإعلان الدستورى، النازعة للصفة القضائية عن هيئتى قضايا الدولة والنيابة الإدارية!
وكذلك فى الخطورة نزع إعلان 8 يوليو لاختصاص المحكمة الدستورية العليا فى الرقابة السابقة على قوانين مباشرة الحقوق السياسية، بما سينعكس ولابد على القوانين المتصلة بالأمر والمعروضة حاليا أمام المحكمة الدستورية، وهى القوانين التى سيتم على هداها إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة.
●●●
رابعا: قام إعلان 8 يوليو بسحب صلاحيات رئيس الورزاء لصالح رئيس الجمهورية، ولم يتضمن نصوصا واضحة لصلاحيات نواب رئيس الجمهورية.
فمنصب رئيس الوزراء ونواب رئيس الجمهورية ليس لها سند فى الإعلان، وإنما تعتمد حكومة الببلاوى ونيابة البرادعى فى سلطاتها إلى ما قد يمنح أو يمنع رئيس الجمهورية المؤقت، بعكس النظام الرئاسى المختلط فى دستور 2012 المعطل، والذى كان يتمتع فيه مجلس الوزراء بصلاحيات يتشارك فيها السلطة التنفيذية مع رئيس الجمهورية، ناهيك عن جمع رئيس الجمهورية المؤقت السلطة التشريعية والتنفيذية، مثلما كان الوضع فى ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد خلع مبارك.
●●●
خامسا: وضع خارطة طريق مربكة وغامضة، قد لا تؤدى لتنفيذ الإرادة الشعبية فى انتخابات رئاسية مبكرة.
فقد اختص الإعلان الدستورى لجنة الخبراء والمكونة من عشرة أشخاص بتحديد المواد الدستورية المراد تعديلها وطرحها على لجنة الخمسين والمفترض أن تمثل طوائف الشعب، بما يعنى إزاحة ممثلى الشعب عن عملية تحديد المواد المطلوب تعديلها واستبدالهم بخبراء، كما لم يحدد إعلان 8 يوليو الحد الزمنى الأقصى لتشكيل لجنة الخمسين، ولم يضع معايير واضحة لمكونات الشعب المصرى وتنوعاته السكانية، والتى لا يتصور عاقل تمثيلها فى خمسين عضوا فقط.
أما الأدهى فما أعطاه الإعلان الدستورى من أسبقية لإجراء الانتخابات التشريعية على الانتخابات الرئاسية، رغم أن الإرادة الشعبية طالبت بانتخابات رئاسية مبكرة، فضلا عن عدم تحديد المد الزمنى لإجراء الانتخابات الرئاسية، بما يهدد وإرباك خارطة الطريق، وإطاله أمدها، فضلا على تجاهل الإعلان احتمالية رفض الشعب المصرى للتعديلات الدستورية التى ستتطرح عليه، ومن ثم افتقاده ولو شكليا لآلية التعامل مع هذا الرفض؟
●●●
سادسا وأخيرا: حرص الإعلان الدستورى على استرضاء بعض تيارات الإسلام السياسى فى دستور 2012 المعطل.
فقد قامت المادة الأولى من إعلان 8 يوليو بدمج المادة 219 من الدستور المعطل، والتى تحدد مبادئ الشريعة بمصادرها المعتبرة فى مذاهب «أهل السنة والجماعة»، وهو الوضع الذى اضطر بعض الكنائس لرفض دستور 2012، وحذر منه الكثير لما فيه من إرباك منظومة الأحوال الشخصية المعمول بها فى مصر منذ 1920، والمعتمدة على منهجية «التخيير والتلفيق» بين المذاهب السنية والمذهب الجعفرى، وفى مسائل اعتدناها فى مصر لأكثر من قرن، كجواز الوصية بالثلث للوارث، وهى فتوى شيعية المصدر والأساس؟
●●●
يقال إن أهم إنجازات إعلان 8 يوليو هو تقصير مدة الطوارئ إلى ثلاثة أشهر، وتعليق مدها قانونيا على موافقة الشعب فى استفتاء عام.
ولكن القراءة القانونية المتأنية فى كل ما سبق توشى بأننا قد نكون بالفعل فى حالة من الطوارئ، المشروعة دستوريا، إذ ما الحاجة للإجراءات والرسميات بعد أن أصبح لرئيس الجمهورية المؤقت وفق المادة 23 من إعلان 8 يوليو سلطة «اتخاذ كل التدابير والإجراءات اللازمة لحماية البلاد»؟ قد يرى القائمون على الحكم فى مصر اليوم ضرورة هذا الإعلان الاستبدادى، حتى نحافظ على الدولة ونخرج بها من أزمة تهدد أمننا القومى بالدمار الاقتصادى، أو الحرب أهلية، أو الاختراق غير المسبوق لحدودنا الشرقية والغربية.. وقد يكون الحق معهم، وقد تكون البلاد فى هذه اللحظة التاريخية بحاجة لمثل هذه السلطات فى الحكم الغاشم.
فلماذا لا نسمى الأمور بأسمائها؟ ولماذا لا نضع واقعنا الدستورى فى نصابه السليم؟
هى الطوارئ إذن، وإن اختفت الكنايات أو غابت المسميات، حكومة طوارئ، ونائب رئيس جمهورية بسلطات طوارئ، وإهدار تام للحقوق والحريات التى ناضل الثوار من أجلها، وحلف يمين من قادة وقامات محسوبة على التيار الليبرالى، يمين مؤداها الولاء والعمل تحت إعلان 8 يوليو 2013، والنكوص بذلك عن أبسط مبادئ الحكم الديمقراطى المدنى السليم.
أرجوكم لا تستهينوا بذكاء هذا الشعب، فالأمر واحد من اثنين، إما التعديل الفورى لإعلان 8 يوليو دون تسويف بحجة الانتظار حتى تعديل الدستور، أو بالعكس الاعتراف الجماعى بأننا رضينا الحكم تحت حالة من الطوارئ الفعلية، والتى قد تتطلبها مصلحة الدولة العليا خلال المرحلة الانتقالية الثانية، وفى جميع الأحوال كفانا من هذه المراوغة فى التفسير والتحليل، فقد أرهقتنا قانونيا حتى بتنا فى الطوارئ، شئنا أم أبينا.
أستاذ القانون المساعد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
للاطلاع على التقرير والمقارنة يرجى زيارة موقع الجماعة الوطنية لحقوق الإنسان
www.nchrl.org