طرق الرّب - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طرق الرّب

نشر فى : السبت 25 فبراير 2023 - 9:25 م | آخر تحديث : السبت 25 فبراير 2023 - 9:25 م
هذا هو المقال الرابع عشر الذى أكتبه فى إطار مشروع «الشخصية القبطية فى الأدب المصري«، ومقال اليوم عن رواية «طرق الرّب« للكاتب شادى لويس، والصادر عام ٢٠١٨ عن دار الكتب خان. هذه الروايةــ التى هى العمل الروائى الأول لشادى لويســ يمكن اعتبارها هى وروايته الأخيرة «تاريخ للخليقة وشرق القاهرة«ــ الصادرة عن دار العينــ بمثابة جزئين متكاملين، وإن بدا لويس وكأنه يمشى بظهره من عمل لآخر، فبعد أن عرّفنا نحن القرّاء على بطل رواية «طرق الرّب« شريف موريس بولس أسعد عوض الله وهو شاب فى مقتبل العمر، عاد بنا القهقرى مع شريف الطفل فى رواية «تاريخ للخليقة وشرق القاهرة«، وبالتالى فالعملان متصلان، لكنى سأركّز هنا على «طرق الرب« وأتطرّق إلى «تاريخ للخليقة« عرَضًا عندما أحتاج لذلك. أما سبب اختيارى «طرق الرّب« بالذات للتركيز عليها فلأن سياق التحليل فيها هو سياق نفسى بامتياز، إذ يشرح لنا المؤلف من خلاله الظروف التى جعلت من شريف شخصية مركبّة شديدة التعقيد، فشريف لا يشعر بالانتماء لشيء أو شخص، نفسه موزعة بين الطوائف المسيحية الثلاث وبين الكنائس المختلفة فى إطار نفس الطائفة (الإنجيلية)، يدرس الهندسة ويعمل فى إحدى الهيئات التابعة لوزارة الثقافة ثم تُلّفق له تهمة فلا يجد أمامه باب رزق إلا بالعمل فى الكنيسة، ينضّم فى الجامعة لجماعة من أربعة أفراد نصفهم مسلم ونصفهم الآخر مسيحى وما «يجمعها عدم انتمائها لشيء«، حتى إستر الفتاة الألمانية التى أحبها واضطر بسببها للتردد على الكنيسة الأرثوذوكسية للحصول على «شهادة خلّو الموانع« كى يتزوجها لم يلبث أن تركها بسهولة حين سافرَت إلى بلدها ولم يتحمّس لاستعادتها، وكأن التخلّى عن الأشياء والعلاقات هو طبيعة شريف الثانية، أو كأنه هو ذلك اللامنتمى الذى خرج من بين صفحات الكاتب البريطانى كولن ويلسون ليطّل علينا فى «طرق الرّب«. ثم أن البطل هو شخص يحاول التمرد ويسلك مسالكه بالفعل لكنه لا ينجح فى الاستمرار فيه أبدًا، يتمرّد على السلطة الكنسية وسطوة الكهنة ثم ينتهى به الحال ليخدم فى الكنيسة ويتزوّج من الفتاة التى يختارها له أبونا أنطونيوس، يلتحق بحركة كفاية ويشارك فى مظاهراتها أمام كنيسة الزيتون وقرب نقابة الصحفيين ثم تروّضه الأحداث وتجعله يمشى جنب الحيط. والأهم فى رواية «طرق الرّب« أنها تدّلنا على الملابسات التى ينشأ فى إطارها لأول مرة الشعور بالتمايز والاختلاف عن الآخرين. هذه الملابسات تشغلنى جدًا، فأنا لست ممن يعتبرون أن الإنسان يولد وهو واع بأنه مختلف عن سواه، لكن المجتمع/الدولة هما المسئولان عن تكوين هذا الوعى أو عدم تكوينه. وكانت اللحظة التى أدرك فيها شريف أنه مسيحى أى مختلف عن الأغلبية المسلمة، هى تلك اللحظة التى رسم فيها لوحة بالفلوماستر لفتاة أحلامه فلما أخرجها لزميله ميدو وهو فخور بهاــ بادره هذا الأخير بسؤال «ودى مسيحية طبعًا؟« فردّ على إجابته بسؤال «وعرفت منين؟« ثم تبيّن شريف سذاجة إجابته فطالما أنه مسيحى لابد أن تكون حبيبته مسيحية أيضًا، ويومها قرر الطفل شريف أن يبحث عن كنيسة تناسبه فى المنطقة. لاحقًا تفاقم وعيه بالاختلاف وتخيّل أن لوجوه المسيحيين ملامح معينة يمكن تمييزهم من خلالها، وانساق إلى المرويات والسرديات الشائعة وصار يصدقها حتى وإن كانت عيناه تكذبها وعقله يرفضها لأنه يثق أن الأديان والمذاهب ليست لها ملامح.
• • •
هذا إذن هو سياق التحليل فى رواية «طرق الرّب«، أما سياق التحليل فى «تاريخ للخليقة« فهو سياق موضوعى تاريخى أكثر منه نفسى، فجوهر الرواية هو التوازى بين سردية اللغة منذ بدء الخليقة وسردية أسرة مصرية تعيش فى شرق القاهرة على حافة حى مصر الجديدة مستقَر الطبقة الوسطى العليا. فى هذه الرواية نجد جرعة مكثّفة من العنف، أكان هذا العنف أسريًا يمارسه أبو شريف بتعدّيه الوحشى مرارًا وتكرارًا بالضرب على زوجته ما يلجئها فى لحظة يأس للتفكير فى الانتحار حرقًا، أو كان هذا العنف دينيًا تمارسه الجماعات الإرهابية ضد مقرّات الكنائس، وفى الحالتين كان شريف شاهدًا ومعايشًا ومعقدًا، مرة لأنه ابن يعيش فى هذه الأسرة ومرة لأنه مسيحى يعيش فى هذا المجتمع. بطبيعة الحال لابد أن هذا العنف بشقيّه أثّر تأثيرًا نفسيًا بالغًا على شريف، أثّر عليه وهو يمشى فى ركاب أمه الهاربة من نار بيت الزوجية إلى لا مكان ويسأل أمه قلقًا من المجهول «إحنا رايحين فين يا ماما؟« فترّد عليه «امشى وانت ساكت، مش ناقصاك، كفاية اللى أنا فيه«، وأثّر عليه وهو يرى الكاهن يتخلّى عن أمه حين تلجأ له طلبًا للمساعدة لكنه يتهرّب منها ويلقى بالمسئولية على كنيسة أخرى حتى لا يوّرط نفسه فى مشاكلها «طيب يعنى إنتو يا بنتى من ناحية منشية التحرير، تبقوا تبع مارى جرجس«، وأثّر فيه لأنه حين يمّر على الكنيسة الكبيرة على الناصية وهى تُحرق وتُرمم، ثم تُحرق وتُرمم، ثم تُحرق ولا تُرمم فيسأل أمه «يا ماما هما مش حايصلحوا الكنيسة؟«، فترّد عليه «لا، كده أحسن، عشان مافيش حد حايبقى عايز يحرق حاجة محروقة أصلًا«، وأثّر عليه طبعًا عندما كان يوصف إجرام الجماعات الإرهابية «بالأحداث« إن تعلّق العنف بالعاصمة و«بالجلج« إن كان الصعيد هو مسرح العمليات.. مجرد أحداث وجلج مع «الجنابل« و«المسيّل« وحرائق وناس تموت.. كيف؟ إذن هذه خلفية ممتازة لفقدان الشعور بالانتماء للبيت والكنيسة والمجتمع والحياة نفسها، وهو شعور يضاف إلى كل التعقيدات التى تحفل بها رواية «طرق الرّب« لتكوّن جميعها شخصية هذا الكائن المدعو شريف موريس بولس أسعد عوض الله، لكن جرعة التحليل النفسى فى «طرق الرّب« مكثّفة، وتفاصيله كثيرة ومتداخلة وعارية كمجموعة أسلاك فى كابينة كهرباء قديمة، لذلك فإنها تستهوينى أكثر للحديث عنها. وقبل أن أنتقل للسير أبعد من ذلك فى «طرق الرّب«، أفتح قوسين لأقول إن شخصية الأب موريس فى هذه الرواية تبدو منبتّة الصلة عن شخصيته فى «تاريخ للخليقة«. فهمنا أنه لا دينى ولا يذهب للكنيسة فى الروايتين، أما هذه الشراسة التى وجدناه عليها فى «تاريخ للخليقة« فلم يكن لها أثر فى «طرق الرّب«، فهل هداه ربنا بعدما أحيل للمعاش فى «طرق الرّب«؟ ثم هذه الغيرة الزوجية الممزوجة ببعض التعصّب الدينى التى التقطناها عند موريس فى «تاريخ للخليقة« من خلال علاقة الجيرة الطبيعية جدًا بين زوجته مارية/ميرى والجار شعبان من أين أتت وقد بدا لنا موريس شخصًا جامدًا بلا مشاعر فى «طرق الرّب«؟ الإجابة توجد فى بطن الكاتب، ولعل الأمر كان يتطلّب منه وصلة كهرباء قصيرة تصل بين موريس وموريس، والآن فلنغذّ السير معًا فى «طرق الرّب«.
• • •
حفلت الجذور الأسرية البعيدة للبطل شريف بالعديد من المتناقضات التى كانت كفيلة بتشويش تفكيره وجعله معلقًا فى الهواء لا يتمسّك ولا يرتبط ولا ينتمى. دع عنك حكاية الاسمين لمعظم أفراد العائلة رغم أنها فى حد ذاتها تُعّد من مصادر الإرباك لأى شخص كان، فالمهم هو الاختلاط بين المذاهب المسيحية فى مجتمع لا يرتاح لفكرة الاختلاط على كل المستويات. أبو جد شريف لأمه، واسمه حنّا وينادى بجعفر، كان أرثوذوكسيًا لكنه قرّر الانتقام بالتحوّل هو وأفراد أسرته للكاثوليكية لأن ابنته فراولة حين وُلِدَت نصف ميتة جرى بها جعفر للكاهن فى أنصاص الليالى لتعميدها حتى تحّل فيها الروح القدس فلم يرحمه الكاهن وأجلّه للصباح والصباح رباح، فكان أن ماتت فراولة دون أن يتم تعميدها أى تغطيسها فى جُرن المعمودية ومسحها بزيت الميرون (لم يشرح الكاتب للقارئ غير القبطى ماهية هذا الزيت، ومن قبل لم أكن أحب فى روايات إدوارد الخرّاط إحساسى بأنه يكتب لأقباط وبالتالى لا يحتاج الشرح لغيرهم). ورثت أم شريف عن جدها وأبيها الكاثوليكية وتم تعميدها فى كنيسة كاثوليكية، لكنها أصبحَت تتردد على الكنيسة الأرثوذوكسية القريبة من منزلها، وهنا نلاحظ التفسيرات البسيطة وغير التآمرية التى قد لا تخطر على بال أحد لكنها تتحكم فى قرارات تبدو مهمة. عندما تديّنت أم شريف على كبر وزاد مشيها للكنيسة اختارت الكنيسة الأقرب لها، كانت تظن أنها يمكن أن تمارس العبادة فى أى كنيسة، فكلها بيوت الله. لكن الكاهن عندما اكتشف أنها قد عُمّدت ككاثوليكية أصّر على إعادة تعميدها مرة أخرى كأرثوذوكسية، فجزعت المرأة ذات الخمسة وستين عامًا وسألَت الكاهن فى دهشة «يعنى يا أبونا هقلع ملط وتغطسونى فى جرن المعمودية والا إيه؟« فحاول الكاهن تهدئتها قائلًا إنها سترتدى نوعًا من المشمّع ولن تُعمّد عارية مثل الأطفال. وهكذا تربّى شريف فى أسرة تعيش من ناحية الأم على حافة الطائفتين الأرثوذوكسية والكاثوليكية. وأضيف إلى هذا التشوّش الطائفى، تشوّش وطنى إذا جاز التعبير، فكثيرًا ما كررَت أم شريف أن الاتحاد الاشتراكى كان يتعامل مع الكاثوليك بوصفهم صهاينة، ويشك فى أنهم كانوا يضيئون الأنوار لغارات الطائرات الإسرائيلية ليلًا كى تعرف أهدافها، وشخصيًا لا أجد سببًا مقنعًا لهذا الشك الذى تحدّث عنه الكاتب فالمصريون البسطاء لا يعرفون الفرق بين المذاهب المختلفة ويعتقدون أن لفظ مسيحى يعنى قبطيًا ولفظ قبطى يعنى تبع البابا شنودة أو البابا تواضروس، تمامًا كما تفترض وزارة التربية والتعليم عند وضع منهج اللغة العربية أن كل التلاميذ مسلمون، وكما يفترض واضعو منهج التربية الدينية المسيحية أن كل التلاميذ المسيحيين أرثوذوكس. وإذا انتقلنا لوالد جد شريف لأبيه واسمه أسعد، نجد أنه قد تنازل عن ابنه بولس أى جد شريف لإرسالية إنجيلية حتى يتخفّف من نفقات العائلة الكبيرة. كبر بولس مع البروتستانت وخالطهم وعاش معهم لكنهم لم يعتبروه منهم لأنه أقل تديّنًا مما يجب. وعندما التحق بالعمل فى شركة لاستصلاح الأراضى بكوم امبو ثم تمّ تمصير الشركة فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر تم الاستغناء عنه وعن زملائه الأقباط واليهود فوجد نفسه هو الآخر محّل شك داخل الطائفة وداخل الوطن. أما موريس والد شريف فكان خارج إطار الكنائس الثلاث ولم يثق أبدًا فى رجال الدين ودائم النقد لهم، وأما شريف نفسه فانجذب للبروتستانتية لأن صَلاتَها تتم بلغة يفهمها بسهولة، ولأن ترانيمها شجّية وكهنتها يقبّلون أيادى الأطفال لأخذ البرَكة ولا تقبّل الرعية أياديهم تبّركًا بهم، لكن الظروف دفعت شريفًا للذهاب للكنيسة الأرثوذوكسية للحصول على «شهادة خلو الموانع«. هذا التشوّش الطائفى أربك الأب أنطونيوس فراح يطارد شريفًا بالأسئلة قبل أن يطمئن إليه ويعطيه الورقة المطلوبة: هل أنت بروتستانتي؟ هل أنت ملحد؟ هل أنت شيوعي؟. ولمزيد من التعقيد وجد شريف نفسه محسوبًا على المسلمين عندما انتقد أبو خطيبته إستر معاملة المسلمين لنسائهم، فذكّره برفق بأنه ليس مسلمًا فردّ الأب «نعم ليس مسلمًا، لكن الثقافة التى تربّى عليها مسلمة«، فلم يكن ينقصه فعلًا إلا هذا. وأخيرًا فإنه مثل أجداده البروتستانت والكاثوليك تعرّض للتشكيك فى وطنيته على حد قوله، بل حتى هو شابه أباه الذى كان يعمل فى إدارة التنصّت على المكالمات الدولية باللغة الأسبانية بحكم معرفته بالأسبانية لكن عدم رضا مديريه عن أمانته فى أداء واجبه الوظيفى تسبّب فى نقله. وبالنسبة لشريف فإنه اتُهم مع صديقه علاء بالتآمر على البلد من خلال حركة كفاية فتّم إلقاء القبض عليهما لفترة قصيرة.
• • •
عديدةٌ هى طرق الرّب التى أخذنا إليها شادى لويس فى روايته الممتعة. رواية خاضت فى أرض وعرة كان قد بدأ يسير فيها منذ ٢٠١١ عدد متزايد من الأدباء المعنيين بالشأن القبطى. وهكذا عندما تواصلتُ عبر الفيسبوك مع شادى لويس الذى يقيم حاليًا فى بريطانيا قلت له: ألاحظ أن هناك وفرة فى إقبال الأدباء الأقباط على الحكى عن المجتمع القبطى، وأعتقد أن هذا نتيجة تحطيم ثورة يناير كثيرًا من التابوهات. رد قائلًا: الملاحظة صحيحة لأن الكتّاب الكبار كان لديهم فى الماضى خشية من أن يتم تصنيفهم دينيًا، ولأن التيار اليسارى الذى ينتمى إليه بعض من هؤلاء كان لابد أن يذهب بهم بعيدًا عن الاشتباك مع التفاصيل الدينية، وهذا تغيّر. أما عن تأثير ثورة يناير على زيادة عدد الأعمال الأدبية التى تتناول الشخصية القبطية فأنا لا أرى الأمر كذلك، وأعتبر أن السبب الرئيسى هو زيادة دور النشر التى سمحت بمضاعفة الأعمال المنشورة ومنها كتابات الأقباط، كما أن كثرة المحفزَات (الجوائز) توفّر الدافع للكتابة وتشجّع على المحاولة/المغامرة. وأضاف أما افتراض أن المنتجات الثقافية هى انعكاس للحراك الاجتماعى فإنه افتراض خاطئ لأن المجتمع قد يتجه لمزيد من المحافظة بينما تتجه الآداب للتحرّر مثلًا. وفيما يخص الأقباط تحديدًا فإنهم يزيدون انغلاقًا وتماهيًا مع السلطة/الجيش.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات