قبل أن يتكلم الطفل.. قلبه يتعاطف - مواقع عالمية - بوابة الشروق
الخميس 31 يوليه 2025 3:14 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

قبل أن يتكلم الطفل.. قلبه يتعاطف

نشر فى : الأربعاء 30 يوليه 2025 - 7:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 30 يوليه 2025 - 7:55 م

نشر موقع Psyche مقالًا للكاتبين زانا كلاى وكارلو فريدن، تناولا فيه بداية التعاطف الإنسانى فى مراحل مبكرة من الحياة، حيث فى مشهد يبدو بسيطًا وعابرًا، يجلس رضيع فى حضن أمه بسلام، ثم يبكى فجأة لمجرّد سماعه بكاء طفل آخر. هذا الموقف اليومى الذى نراه دون تفكير، يحمل فى طياته واحدة من أعمق خصائص الإنسان: الاستجابة الفطرية لمشاعر الآخرين.

 


يكشف هذا المقال كيف أن التعاطف لا يبدأ فى مراحل متقدمة من النمو، بل يظهر منذ الشهور الأولى من الحياة، من خلال ما يُعرف بالعدوى العاطفية، حيث تنتقل المشاعر بين الأطفال حتى قبل أن يتعلموا الكلام. ومن خلال تجارب علمية حديثة ومتنوعة الثقافات، يتتبّع المقال جذور التعاطف، مبرزًا أنه ليس فقط نتيجة للتربية أو الثقافة، بل سمة إنسانية يُولد بها الإنسان، وتزدهر بالتجربة والرعاية.. نعرض من المقال ما يلى:
فى مشهد بسيط وعفوى، يجلس طفل رضيع فى حضن أمه بهدوء، مستمتعًا بالسكينة. فجأة، يقطع هذا الهدوء صوت بكاء حاد صادر من طفل آخر قريب. يعبس الرضيع، ويدير رأسه نحو مصدر الصوت، وفى لحظات، يتغير وجهه ويبدأ فى البكاء هو أيضًا. تنظر إليه أمه بدهشة، متسائلة: لماذا بكى فجأة؟ لقد كان مرتاحًا ومُطعمًا منذ لحظات فقط!
هذا المشهد، وإن بدا يوميًا عاديًا، يكشف عن واحدة من أعمق وأقدم خصائص الإنسان: القدرة على التعاطف.
البكاء ليس مجرد وسيلة لإزعاج الأمهات أو جذب الانتباه، بل هو أداة تطورية قوية، تشكلت عبر ملايين السنين لتكون نداءً لا يُمكن تجاهله. صوت البكاء يخترق المشهد، يُحفّز الجهاز العصبى، ويُرغم الآخرين على التفاعل. لكن الأكثر إدهاشًا أن هذا التأثير لا يقتصر على البالغين، بل يمتد حتى إلى الأطفال الرُضع.
ما يحدث هنا يُعرف علميًا باسم العدوى العاطفية، وهى عندما تنتقل مشاعر أحدهم تلقائيًا إلى شخص آخر. فكّر فى الضحك المعدى: ضحكة واحدة كفيلة بأن تُطلق موجة ضحك. بالمثل، يمكن أن ينتقل البكاء أيضًا، خصوصًا بين الرُضع الذين لا يملكون بعد لغة أو مفردات، ولكنهم يملكون مشاعر حيّة.
• • •
العدوى العاطفية، كما يراها عالم الرئيسيات (علوم الأحياء) الشهير فرانس دى فال، هى الطبقة الأساسية التى يُبنى فوقها التعاطف. فى نموذجه الذى يشبه دُمى «ماتريوشكا» الروسية، يُصوَّر التعاطف كعملية مركبة تبدأ بالمشاركة التلقائية للمشاعر، ثم تتطور تدريجيًا إلى مشاعر أعمق، كالرغبة فى المواساة أو تقديم المساعدة.
لكن متى يبدأ هذا التعاطف فى التكوّن؟ وهل هو فطرى أم مكتسب؟ للإجابة، قرر العلماء النظر فى أبكر مراحل الحياة: مرحلة الرضاعة.
فى سبعينيات القرن الماضى، أجرى عالم النفس مارفن سيمنر تجربة لافتة على رُضع حديثى الولادة، عرض عليهم أصواتًا مختلفة، منها بكاء أطفال آخرين وأصوات صناعية. النتيجة كانت واضحة: الأطفال استجابوا بالبكاء بشكل أكبر عندما سمعوا بكاء رُضع آخرين. ومن هنا وُلد مصطلح «البكاء المُعدى».
لكن هذا الاكتشاف، رغم أهميته، لم يُقنع الجميع. فهل كان الرُضع يبكون لأنهم شعروا بمعاناة غيرهم؟ أم لأن صوت البكاء كان مزعجًا فحسب، تمامًا كصوت الصفير أو الأظافر على السبورة؟ فى دراسة أُجريت عام 2019، تم عرض أصوات بكاء حقيقى وأخرى صناعية تُحاكى البكاء على أطفال أكبر سنًا. المثير أن الأطفال أظهروا انزعاجًا من كلا النوعين، مع أن الاستجابة للبكاء الحقيقى كانت أكثر وضوحًا.
• • •
وهنا ظهرت إشكالية أخرى: معظم هذه الدراسات أُجريت فى بيئات غربية متقدمة. فهل تُعبّر نتائجها فعلًا عن جميع أطفال العالم؟ ماذا عن الرُضع فى القرى، فى الأدغال، أو فى المجتمعات التى تحمل ثقافات وعادات مختلفة تمامًا فى التعبير عن المشاعر؟
للإجابة، قام فريق من العلماء بدراسة مبتكرة قارنت بين ردود أفعال أكثر من 300 طفل رضيع (عمرهم 10 أشهر) من ثلاث بيئات مختلفة: قرية ريفية قرب غابة فى أوغندا، مدينة أوغندية حضرية، ومنطقة حضرية فى المملكة المتحدة. جلس الأطفال فى أحضان أمهاتهم، واستمعوا إلى أربعة أصوات: بكاء طفل، ضحك طفل، ثرثرة، وصوت صناعى يُشبه البكاء.
لكن لم يكتفِ الباحثون بمراقبة تعابير الوجه فقط، بل استخدموا أداة دقيقة: التصوير الحرارى بالأشعة تحت الحمراء، لقياس تغير درجة حرارة أنوف الأطفال، إذ إن التغيرات المفاجئة فى المشاعر تُسبب تغيرًا فى تدفق الدم، مما يُغير حرارة الجلد، خاصةً عند الأنف.
النتائج كانت مذهلة: فى البيئات الثلاث، كان الصوت الذى سبب أكبر تغير فى درجة حرارة الأنف وأقوى رد فعل سلبى هو صوت بكاء طفل آخر. بعض الرُضع بكى فعلًا، بينما عبر البعض الآخر عن انزعاج واضح من خلال العبوس أو التوتر. كما أن استجابتهم للبكاء الحقيقى كانت أقوى من استجابتهم للأصوات الصناعية.
ما تعنيه هذه النتائج هو أن الأطفال فى مختلف الثقافات، رغم اختلاف البيئات، يشتركون فى حساسية فطرية تجاه البكاء كإشارة على الضيق. بل إنهم يُظهرون استعدادًا فطريًا للتفاعل مع مشاعر الآخرين.
• • •
لكن القصة لا تنتهى هنا. ففريق الباحثين نفسه، فى دراسات تكميلية لم تُنشر بعد، اكتشف أن هؤلاء الرُضع لا يكتفون بالشعور، بل يُظهرون بوادر فعلية للتعاطف. فى تجربة باستخدام تتبع العين، لاحظوا أن الأطفال ركزوا أكثر على شخصية تحتاج للمساعدة، وبدَوا مندهشين عندما قُدمت المساعدة لشخص آخر لا يحتاجها. بل وُجد أن بعض الأطفال، عند رؤية أمهاتهم تتظاهر بالألم، حاولوا مواساتهن عبر تقديم ألعاب أو العناق.
تُثبت هذه الدراسات أن التعاطف يبدأ قبل المشى أو الكلام. إنه ليس مهارة نكتسبها لاحقًا فقط، بل قدرة فطرية تنمو وتزدهر مع الوقت، ومع نمو الطفل، يمكن لهذه البذور أن تتحول إلى فهم أعمق لمشاعر الآخرين، وإلى رحمة ورغبة فى المساعدة.
• • •
ورغم أن العدوى العاطفية قد تكون فطرية، فإن الطبقات العليا من التعاطف – كالرحمة والنُبل ومراعاة مشاعر الآخرين فى مواقف معقدة – تتطلب تعلُّمًا وتجربة. التربية، والثقافة، والأسرة كلها تلعب دورًا فى تنمية هذا الجانب.
فى النهاية، يبدو أن أطفالنا يولدون وفى قلوبهم شرارة التعاطف.. ويبقى دورنا أن نغذيها حتى تُنير العالم.
• • •
فى ضوء كل ما سبق، تتضح لنا حقيقة مذهلة وبسيطة فى آنٍ واحد: أن التعاطف ليس سلوكًا نتعلمه لاحقًا فحسب، بل هو جزء من تكويننا الإنسانى منذ اللحظات الأولى للحياة. فبكاء رضيع تأثرًا ببكاء آخر ليس فعلًا عشوائيًا، بل هو تعبير صادق عن استعداد فطرى للتواصل، والمشاركة، والإحساس بالآخر.
لكن هذا الاستعداد وحده لا يكفى. فكما تحتاج البذرة إلى الماء والضوء لتنمو، يحتاج التعاطف إلى تربية واعية، وبيئة تحتضنه وتغذيه. فالدور الأكبر يبقى على عاتق الأسرة والمجتمع فى تنمية هذه البذور الصغيرة، وتحويلها إلى مشاعر ناضجة تقود إلى الرحمة، والمساندة، وفهم أعمق للآخرين.
إننا عندما نفهم أن فى داخل كل طفل قلبًا قادرًا على الإحساس بالآخر، نُدرك أن التعاطف ليس فقط ما يجعلنا بشرًا.. بل ما يجعل هذا العالم ممكنًا للعيش.

 


مراجعة وتحرير: يارا حسن
النص الأصلي

 


https://bitly.cx/R0r6e

 

التعليقات