زياد الرحباني والتعبير عن هموم لبنانية وعربية - وليد محمود عبد الناصر - بوابة الشروق
الخميس 31 يوليه 2025 3:16 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

زياد الرحباني والتعبير عن هموم لبنانية وعربية

نشر فى : الأربعاء 30 يوليه 2025 - 7:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 30 يوليه 2025 - 7:40 م

لم يكن الإجماع اللبنانى والعربى فى الإعراب عن الحزن والألم لغياب الفنان اللبنانى والعربى الكبير الراحل زياد الرحبانى عن عالمنا والتسابق فى ذكر وتعداد ورثاء مآثره سوى تعبير حى ونابض وصادق عن مدى الأثر العميق الذى تركه هذا الفنان المبدع والإنسان المرهف الحس والفيلسوف الجاد والساخر فى آن واحد وصاحب المواقف السياسية والاجتماعية والفكرية المبدئية والصريحة والمباشرة فى وجدان أجيال متتالية لبنانية وعربية، وكذلك كان ينم عن حجم الاحترام والتقدير الذى كان وما زال وسوف يظل يلقاه، سواء ممن اتفقوا معه أو ممن اختلفوا معه فى الموقف والرأى عندما تعلق الأمر بقضايا السياسة والمجتمع، سواء على الصعيد الوطنى اللبنانى أو على الصعيد القومى العربى أو على الصعيد الإنسانى فى سياقه العام.

 


ولم يكن زياد الرحبانى منذ البداية فنانًا عاديًا فهو ابن السيدة فيروز، قيثارة الشرق وجارة القمر، وابن الموسيقار الراحل الكبير عاصى الرحبانى، الذى كان هو وأخوه منصور صاحبا مدرسة مهمة فى تحديث الموسيقى والغناء العربيين، وهما كانا بالمناسبة يعتبران نفسيهما امتدادًا طبيعيًا وتطيرًا نوعيًا على نفس نهج وطريق الموسيقار المصرى الراحل الشيخ سيد درويش رحمه الله.
وبالطبع لا يعنى هذا بأى حال من الأحوال أن الفنان الكبير الراحل زياد الرحبانى قد «ورث» الفن عن والديه، أو أن شهرته كانت بسبب «الواسطة» من جانب والديه أو أحدهما، أو بسبب مجاملة فنانين كبار آخرين له على مدى مسيرته الفنية الثرية، بسبب والديه أو إكرامًا لهما، بل المقصود هو أنه نهل، ومنذ سن صغيرة، من منبعين صادقين وحقيقيين وعميقين للفن والموسيقى والغناء، وهى فرصة نادرًا ما تتاح لأحد من البشر، ومكنه ذلك من البدء فى الإبداع والعطاء الفنى منذ سن ما قبل السابعة عشرة ملحنًا لوالدته أغنية «سألونى الناس»، والتى طلب منه عمه منصور الرحبانى بأن يقوم بتلحين الأغنية.
ولكن زياد الرحبانى لم يقنع بأن يكون مجرد امتداد تقليدى لمدرسة والده وعمه، أى مدرسة الرحبانية فى الموسيقى، ولم يكن مقلدًا لوالده الراحل أو والدته، أطال الله بقاءها، بل شق طريقه بموهبته وجديته وصاغ منهجه الخاص به وكون مدرسته الخاصة التى تجمع بين الفكر والفن والنضال والالتزام بقضايا البشر العاديين وهمومهم وتطلعاتهم معبرًا عن إحباطاتهم وآمالهم، كما كان يراها ويعرفها ويقوم بتوصيفها طبقًا لمعتقداته الفكرية والسياسية المنتمية لليسار اللبنانى والعربى والعالمى، وسوف تظل هذه المدرسة الفنية التى أنشأها لعقود مقبلة تنتسب إليه وتدين بالفضل له.
بل إن الراحل الكبير زياد الرحبانى، ومن خلال تلحينه أغنيات ومسرحيات غنائية لوالدته السيدة فيروز طبقًا لمدرسته ومنهجه وفكره وأسلوبه هو فى التأليف الموسيقى، قد أضاف لها، بحسب رأى الكثير من النقاد الفنيين، جمهورًا جديدًا من المنتمين إلى مدرسته الفنية والتابعين لها والمعجبين بها، خاصة من أجيال من الشباب والشابات، سواء فى لبنان أو داخل الوطن العربى بأسره أو بين عرب المهجر، وهو الأمر الذى ساهم فى المزيد من الإثراء والتأثير للعطاء الفنى لوالدته الفنانة الكبيرة السيدة فيروز.
ولقد تنوع إبداع الراحل الكبير زياد الرحبانى ما بين التأليف الموسيقى والتلحين والغناء والمسرح، سواء لوالدته السيدة فيروز أو لنفسه مصحوبًا بمن يؤمنون برسالته الفنية والوطنية والفكرية أو لفنانين آخرين، بالإضافة إلى إسهامه فى أعمال فنية عديدة تعتبر علامات بارزة فى التأريخ لما شهده لبنان وشعبه من أحداث جسام على مر العقود، خاصة فى مراحل تاريخه الحديث والمعاصر، لكن بالذات منها ما تناول فترة الحرب الأهلية اللبنانية التى اندلعت ما بين منتصف عقد السبعينيات إلى نهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وشهدت تلك الحقبة واحدًا من أعلى معدلات التفاعل التاريخى والحميمية الإنسانية بين الشعب اللبنانى وبقية الشعوب العربية، وكانت للراحل زياد الرحبانى دائمًا رؤيته المتسمة بالثورية تجاه تلك الأحداث والتطورات، ومن أهم تلك الأعمال وأبرزها التى ساهم فيها هو الفيلم المهم «همسات» للمخرج اللبنانى الكبير الراحل مارون بغدادى، والذى ساهمت فيه أيضًا الشاعرة اللبنانية الراحلة نادية توينى.
وما زلت أتذكر الألبوم الموسيقى والغنائى الرائع الذى حمل موسيقى وغناء الراحل الكبير زياد الرحبانى وصدر بعنوان «أنا مش كافر»، والذى صدر للمرة الأولى فى منتصف عقد الثمانينيات من القرن العشرين، والذى كان من أوائل ألبوماته التى جمع فيها بين التأليف الموسيقى والتلحين والغناء، وهو الألبوم الذى قام بإعادة توزيعه موسيقيًا فى عام 2008، وهو ألبوم أزعم أنه لخص فيه رؤيته للكثير من الهموم التى عانى ولا يزال يعانى منها، ليس فقط المجتمع اللبنانى، لكن مجمل المجتمعات العربية، وإن رفضت أو أحجمت الحكومات والشعوب على حد سواء أحيانًا من الإقرار بذلك لكن زياد كان صريحًا وصادمًا ومباشرًا، كما كان دومًا، فى مكاشفة الحكومات والشعوب العربية بحقيقة ما تعانيه مجتمعاتها من أمراض عضال ومواطن خلل وأوجه قصور وانهيارات هيكلية وتشوهات بنيوية أدت بها إلى ما وصلت له المجتمعات العربية، بما فيها المجتمع اللبنانى، من حال صعب ومأزوم ومن عجز عن الفعل إزاء هذا الحال، ففى هذا الألبوم المبدع وضع يده على العلل وصرخ فى وجه الشعوب العربية صرخة تحاول إعادة هذه المجتمعات إلى وعيها الحقيقى لكى تنفض غبار التجهيل والتسطيح ولكى تزيل عن نفسها أزمنة متتالية من تزييف الوعى، ولكى تدرك حجم المأزق التاريخى الذى هى واقعة فيه منذ عقود بل قرون.
فى هذا الألبوم كشف واقع التفاوت الاقتصادى والاجتماعى الصارخ فى المجتمعات العربية ومخاطره على السلم الأهلى والهوية والوحدة الوطنية، ومن جهة أخرى كشف مخاطر استغلال البعض للدين أو المذهب أو الطائفة لإيجاد حواجز بين البشر ولاصطناع عداوات مفتعلة تتطور أو قد تتطور إلى حروب أهلية تطيح بالوطن بأسره، أى بوجوده وليس مجرد استقراره أو سلمه الاجتماعى أو أمنه المجتمعى، سواء بين أبناء الوطن الواحد أو من ينتمون إلى عموم الجماهير من أبناء أوطان متعددة. كما رفض فى هذا الألبوم كل صياغات التكفير والتخوين، سواء على أسس دينية، طائفية، مذهبية أو سياسية، وحذر من نتائجها التى تؤدى إلى استبعاد وإقصاء الآخر والسعى إلى تهميشه، بل أحيانًا إلى نفيه معنويًا وإنكار وجوده. كما اعتبر أن الوطن ليس فكرة مجردة ومطلقة لكنه يكون بحالة أهله ومواطنيه وما ينعمون به مما يتولد عنه من انتماء.
ويحسب للفنان والإنسان والمثقف والمناضل اللبنانى والعربى الراحل زياد الرحبانى أنه انتمى إلى تلك الفئة من الفنانين الذين لم يغيروا انتماءاتهم منذ سن مبكرة فى حياته وحتى رحيله عن عالمنا منذ أيام قليلة، وربما ضحى بسبب تمسكه بمعتقداته السياسية باتساع أكثر فى شعبيته الفنية من جانب بعض من اختلفوا معه أيديولوجيًا وسياسيًا، كما أنه من الفنانين الذين رفضوا أن يبيعوا أنفسهم وفكرهم وفنهم أو يسمحوا لأحد بأن يشتريهم أو يوجههم، قد تتفق معه أو تختلف، لكنه بالتأكيد ظل منذ ريعان شبابه حتى وفاته ملتزمًا بالدفاع والتعبير عن صالح شعبه اللبنانى وشعوب الأمة العربية، بالطبع طبقًا لما تمليه رؤيته هو لهذا «الصالح»، وظل منتميًا إلى عموم شعبه والشعوب العربية وملتحمًا بأحلامها وتطلعاتها وبهمومها وإحباطاتها، فلم يتغير ولم يهادن أو يساوم على ما آمن بأنه أساسيات ومبادئ وثوابت، مع تحمله دفع أى ثمن مقابل ذلك.

وليد محمود عبد الناصر مفكر وكاتب مصرى
التعليقات