من دلالات المقارنة بين فلسطين وإقليم «أرض الصومال» - وليد محمود عبد الناصر - بوابة الشروق
الأربعاء 31 ديسمبر 2025 8:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من ترشح لخلافة أحمد عبدالرؤوف في تدريب الزمالك؟

من دلالات المقارنة بين فلسطين وإقليم «أرض الصومال»

نشر فى : الأربعاء 31 ديسمبر 2025 - 7:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 31 ديسمبر 2025 - 7:05 م

جاءت تصريحات السفيرة تامى بروس، المندوبة الدائمة للولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، خلال جلسة طارئة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فى نيويورك انعقدت يوم الإثنين 29 ديسمبر 2025، لبحث موضوع اعتراف إسرائيل باستقلال إقليم «أرض الصومال»، كأول دولة فى العالم تعترف رسميا باستقلال الإقليم الذى يعتبر طبقا للأمم المتحدة وللقانون الدولى جزءًا لا يتجزأ من أراضى جمهورية الصومال الفيدرالية، كاشفة عن تباينات حادة وفجوات ضخمة فيما بين رؤى مجموعات وكتل وتجمعات مختلفة من دول العالم، باعتبار الدولة لا تزال هى المكون الأساسى للنظام الدولى الذى نتج عن انتهاء الحرب العالمية الثانية، تجاه العديد من المفاهيم الرئيسية والمرتكزات المحورية التى يقوم عليها النظام الدولى وتستند إليها أنماط التفاعلات فى العلاقات الدولية.

 


فقد أبدت السفيرة بروس دهشتها لأن يعقد مجلس الأمن الدولى جلسة طارئة لمناقشة اعتراف إسرائيل بـإقليم «أرض الصومال» بينما لم يعقد المجلس جلسة طارئة للإعراب عن غضبه، على حد قولها، عندما اعترفت عدة دول أعضاء فى الأمم المتحدة، بما فيها دول أعضاء فى مجلس الأمن، بدولة فلسطين فى سبتمبر الماضى، وهو ما اعتبرته السفيرة بروس اعترافا بدولة غير موجودة، وبالتالى هاجمت المندوبة الدائمة الأمريكية «ازدواجية المعايير»، وهو اتهام سمعناه كثيرا فى السابق موجها ضد الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها ربما المرة الأولى منذ زمن طويل التى نسمع فيها هذا الاتهام موجها من قبل الإدارة الأمريكية لقطاع عريض من المجتمع الدولى.
ولقد كشفت هذه التصريحات عن شرخ حقيقى وعميق فى رؤية ووصف ومعالجة العديد من الموضوعات الهامة على جدول أعمال العلاقات الدولية، وهو شرخ لم ينشأ الآن أو من خلال تلك التصريحات، بل هو موجود وفى حالة تصاعد منذ ما يقرب من أربعة عقود من الزمن، وتحديداً منذ بدأت تلوح فى الأفق إرهاصات تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتى السابق والكتلة الدولية التى كان يقودها فى النصف الثانى من عقد الثمانينيات من القرن العشرين، إلا أن هذا الشرخ كان يمضى فى الكثير من الأحوال فى إطار ما هو «مسكوت عليه» من الخلافات والتباينات فيما بين الدول فى سياق الإدارة اليومية والتسيير الروتينى لمنظومة العلاقات الدولية.
ويمكن التأريخ لنشأة ذلك الشرخ فى الرؤية والتفسير والمعالجة للعديد من القضايا التى شهدها النظام الدولى لتبنى الحكومة الفرنسية فى عهد الرئيس الراحل «فرانسوا ميتران»، وهو بالمناسبة كان قادما من صفوف اليسار الفرنسى، وبشكل أكثر تحديدا كان زعيم الحزب الاشتراكى الفرنسى ومرشحه الذى فاز بالانتخابات الرئاسية فى دورتين متعاقبتين فى عامى 1981 و1988، لمطلب ومسعى اعتراف الأمم المتحدة بالمفهوم الذى أطلق عليه ميتران وقتها «حق التدخل الإنسانى»، بل وقيام فرنسا بجهد كبير لتقنين هذا المفهوم وليس الاكتفاء أو الاقتصار على جعله مفهوما سياسيا بل الضغط لإدماجه ضمن منظومة القانون الدولى عموما، والقانون الدولى الإنسانى على وجه الخصوص. وجاء ذلك التحرك الفرنسى آنذاك فى مواجهة استخدام حكومة الرئيس العراقى الراحل صدام حسين للأسلحة الكيميائية ضد جزء من الشعب العراقى، وهم الأكراد العراقيون، خلال حرب الثمانى سنوات بين العراق وإيران (1980-1988)، وتحديدا فى شهر مارس من عام 1988.
وإن كان المسعى الفرنسى قد أخفق فى حينه بسبب معارضة قوية من بلدان الجنوب استنادا إلى قدسية مبادئ ومفاهيم احتوى عليها ميثاق الأمم المتحدة مثل «سيادة الدولة على أراضيها»، و«عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخرى»، وهى تعتبر مبادئ حاكمة ومترسخة فى قانون التنظيم الدولى، مع الإقرار بالطبع بالاستثناءات والحالات المحددة التى ذكرها الميثاق، بل ومعارضة أو تحفظات من جانب قوى وأصوات داخل المعسكر الغربى والأوروبى، ومن قبل فقهاء قانونيين دوليين غربيين وغير غربيين ومن بعض المنظمات غير الحكومية الدولية، بما فيها الغربية، العاملة فى مجالات تتصل بالقانون الدولى الإنسانى، فإنه جسد أمرين فى غاية الدلالة والأهمية.
أما الأمر الأول فكان بدء ظهور، وليس حدوث، شرخ كبير بين رؤية عدد من الدول الغربية، خاصة الرئيسية منها، ورؤية القطاع العريض من بلدان الجنوب العالمى، حول زوايا جديدة رأتها تلك الدول الغربية فى حاجة إلى مقاربات جديدة ومختلفة من المجتمع الدولى أو لتفسيرات للقانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى وميثاق الأمم المتحدة، تختلف جذريا أو جزئيا عن التفسيرات السائدة، خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أما الأمر الثانى فكان بروز وتطور مسار مواز فى المجتمع الدولى يسعى لإعادة صياغة المفاهيم الحاكمة للنظام الدولى فى فترة كانت تبدو فى الأفق أنها نهاية الحرب الباردة وهزيمة المعسكر السوفيتى مما اعتبره البعض انتصارا للمعسكر الغربى ومنظومته القيمية ومعاييره التى يجب أن تصبح من الآن فصاعدا هى معايير النظام الدولى ككل وعلى جميع بلدان العالم اتباعها والالتزام بها لأنه سيتم الحكم على سلوكها على أساسها.
وتجدد من آن لآخر الجدل والنقاش، بل وأحيانا النزاع الدولى حول تلك المحاور، ورأينا أشكالا مختلفة وإعادة صياغات لمفاهيم تم طرحها ولم تمر من قبل وأعيد طرحها تحت مسميات مختلفة ومع إدخال بعض التعديلات عليها هنا وهناك، وأود أن أوضح أننا لسنا هنا بصدد الحكم على أى من هذه المفاهيم أو مدى جدواها على صعيد العلاقات الدولية، ولكننا نتعامل معها هنا من خلال بوابة ما طرحته من تحديات لمفاهيم ومبادئ كانت قد استقرت فى وجدان المجتمع الدولى على مدار عقود، بل وبالنسبة لبعضها على مدار قرون. فظهرت على مدى العقدين التاليين لظهور مفهوم «حق التدخل الإنسانى» مفاهيم «مسئولية الحماية» و«الأمن الإنسانى» و«التنمية البشرية»، وهى كلها أُخذت فى الاعتبار بعض، وليس كل، أوجه الانتقاد والتحفظ التى سبق توجيهها لمفهوم «حق التدخل الإنسانى».
كما أن ممارسات وأحداث دولية جسيمة حدثت على أرض الواقع دفعت القطاع الأكبر من بلدان الجنوب العالمى للتحدث مجددا عن «ازدواجية المعايير» التى تمارسها بعض أو غالبية الدول الغربية وغلبة المصالح على المبادئ، والسعى لتبرير أعمال منافية للقانون الدولى والقانون الدولى الإنسانى ولمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة من خلال الدفع لإعادة تفسير تلك المبادئ والمفاهيم المتفق عليها من حيث المبدأ منذ زمن بعيد. وكان من أمثلة تلك التصرفات والأفعال الغزو الأمريكى لأفغانستان فى عام 2001 وللعراق فى عام 2003، إلا أن المعسكر الغربى طرح بالمقابل ما تؤدى إليه تطورات داخلية فى بلدان الجنوب العالمى تفضى إلى نتائج تؤثر سلبا على المجتمع الدولى ككل، وفى مقدمة ذلك العنف الذى يتحول إلى إرهاب، ليس فقط فى الداخل بل على الأصعدة الإقليمية والدولية كما حدث فى هجمات 11 سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وهو نتيجة ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية داخلية، والحروب الأهلية والمجاعات، وهى نتيجة سوء إدارة السياسات الاقتصادية أو غياب «الحوكمة الرشيدة»، والتى تؤدى بدورها إلى حالات هجرة جماعية ضخمة، سواء شرعية أو غير شرعية، وموجات لجوء بشرى بأعداد غفيرة ليس لدى المجتمع الدولى القدرة ولا الإمكانيات للتعامل معها، خاصة إذا اندلعت بشكل مفاجئ.
ولم يحسم الجدل، ولا أتصور أنه سيحسم فى المستقبل القريب، حول هذه التباينات المفاهيمية الأساسية، إلا أن كل طرف سوف يستمر فى مسعاه لكسب أرضية جديدة وأنصار جدد بمرور الزمن لرؤيته وتفسيره للمفاهيم والمبادئ الحاكمة للنظام الدولى ولإدخاله مفاهيم جديدة أو حتى طرحه لتصورات تصل لدى البعض إلى حد السعى لإعادة رسم خريطة العالم، أو على الأقل بعض مناطقه وأقاليمه الحيوية ذات الأهمية الاستراتيجية والجيوسياسية الدولية. ولن يفرط كل طرف بسهولة فى قناعاته ولن يتخلى عن مسلماته، وأى تغير فى مواقف أى طرف، إن حدث أصلاً، سيكون بالضرورة بطيئا وتدريجيا وجزئيا وعلى امتداد مدى زمنى طويل، وسيظل كل طرف فى معادلة السياسة الدولية يدلل على صحة منهجه بضرب الأمثلة التى تساند وتدعم موقفه ومن خلال السعى من أجل دحض تلك الأمثلة التى تزعزع فرضياته ومعطياته الرئيسية.

وليد محمود عبد الناصر مفكر وكاتب مصرى
التعليقات