توفيق الحكيم وعودة الوعى! (4) - رجائي عطية - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توفيق الحكيم وعودة الوعى! (4)

نشر فى : الأربعاء 25 سبتمبر 2019 - 10:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 25 سبتمبر 2019 - 10:05 م

أورد الأستاذ توفيق الحكيم هزيمة يونيو 1967، التى سميت نكسة من باب التخفيف ـ أوردها ضمن أسباب «عودة الوعى» التى أصدر كتابها سنة 1974، فقد أضناه ما أضنانا جميعًا، فتحدث عن «التهويش بالحرب» ـ وهو تعبير صائب يصادف «مهرجان» مايو 1967، وهو
«تهويش» فارغ لا يرهب قطة، وتحدث عن هطل قياس انسحاب 1967 على انسحاب سنة 1956 من الكماشة التى نصبتها دول العدوان الثلاثى، وتحدث عن تكرار سيناريو «التبرير»، وعن شيوع شعار «إزالة آثار العدوان»، دون إدراك لفارق القياس، ففى 1956 كان هناك أسدان كبيران: الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة ـ لم يريدا السماح للوحوش الصغيرة مدبرة العدوان بأن تبسط نفوذها على الشرق الأوسط وتتحكم فى قناة السويس، فهبَّا ـ كل لأسبابه وبطريقته ـ وزأرا الزئير الذى أخاف الضبع والذئب والثعلب الصغير، فهربوا ـ أو انسحبوا ـ تاركين الفريسة مطروحة على الأرض تجتر الهزيمة، وسرعان ما تكررت الصورة السابقة التى حدثت فى سنة 1956 ـ بلا محل للقياس ـ وتعالت الصيحات انتصرنا انتصرنا، بينما كانت مصر تجتر أحزانها!!!
وظنى أن الأستاذ توفيق الحكيم لو علم ما أعلمه من «خبايا» وأسباب هذه الهزيمة المرة، لتقدم كتابه عن «عودة الوعى» لسبع سنوات على الأقل.
سبق مهرجان مايو 1967، أن تحكّم فى الأمور بداخل القوات المسلحة، مجموعة المشير عبدالحكيم عامر، وكانت مهيمنة مسيطرة بحجم عدم إلمامها بفنون العسكرية الحديثة، ومجموعة شمس بدران التى حرص على دفعها لمقدمة الصفوف، وإن توسل إلى ذلك بدفعهم إلى الفرق العسكرية الحديثة لدراسة العقيدة الشرقية فى الاتحاد السوفييتى، وإلى هؤلاء وأولاء مجموعة ما يسمى مكتب المشير، على شفيق ومجموعته، إلى ما تخلف من محاكمات اليمن من ندوب ساهمت مع كل هذه السلبيات، فى إبعاد القوات المسلحة عن قدراتها لا سيما وثلثا القوة الميدانية الضاربة على جبال اليمن!
كانت هزيمة الأيام الستة فى يونيو 1967؛ نتيجة محققة لكل هذه التراكمات، فضلا عن صدور القرار السياسى بلا مرجعية عسكرية أو تقدير موقف عسكرى يقدره الخبراء المنصرفون إلى واجباتهم العسكرية، وهم كثرٌ بالقوات المصرية المسلحة، لولا المصادرة عليهم بالمجموعات الثلاث التى أشرت إليها.
كنت فى تلك الأيام الحزينة ضابطًا عاملا بالقضاء العسكرى، ولم أكن مسئولا عن الهزيمة وأسبابها، ومع ذلك كنت أستحى أن أعلن للكمسارى ـ ولم أكن أملك سيارة ـ أننى قوات مسلحة، لأنال التخفيض «نص أجرة» ـ مع أننى كنت أحوج ما أكون أيامها إلى القرش الذى أدفعه زيادة وأملك الإعفاء منه.
وبينما كانت مصر ونحن ـ نجتر أحزانها، ونعانى تداعيات الهزيمة، خرجت فئة ممن تميزوا ونعموا وتسببوا فى الهزيمة، خرجت لتحتشد وتلتف حول بيت المشير عامر بالجيزة، حافرة الخنادق مقيمة المتاريس، حاملة السلاح والعتاد، ولكن إلى قلب مصر!!
كانت حرب اليمن ردة فعل لانفصال الوحدة المصرية السورية، واحتجاز المشير عبدالحكيم عامر فى سوريا، حتى أُمرنا ـ وكنت ضابطًا أثناء ذلك باللواء السابع المشاة بالعامرية بالمنطقة العسكرية الشمالية ـ أُمرنا بالتجمع فى ميناء الإسكندرية للإبحار إلى اللاذقية للتدخل العسكرى فى سوريا، لولا أن غلبت أصوات العقل والحكمة.
وكما كانت حرب اليمن «ردة فعل» ـ كان مهرجان مايو 1967 ردة فعل أيضًا ولكن لأزمتنا والنزيف الذى نتعرض باليمن، وذلك بإرسال الباقى من قواتنا إلى سيناء لجمع حشود كان منهم من جُمعوا من الاحتياط على عجل، بلا تدريب وبلا تجهيز، يرتدون الجلاليب ولا يحملون سلاحًا إلا ما حمله بعضهم من عصى أحضروها معهم من قراهم، وعقـد الرئيس جمـال عبدالناصر مؤتمرًا صحفيًا أعلن فيه غلق مضايق تيران فى وجه الملاحة الإسرائيلية، وكان ذلك أول علمٍ لنا ـ حتى فى القوات المسلحة ـ بأن المضايق مفتوحة لإسرائيل فى أعقاب 1956، كثمن للانسحاب إثر احتلال إسرائيل لكامل سيناء، واحتلال القوات الإنجليزية الفرنسية لبورسعيد ـ فى عدوان 1956.
وإذْ قيل إن السبب فى الحشد ـ هو ما أبلغ به السوفييت من وجود حشود إسرائيلية على سوريا، فقد كلف الفريق أول محمد فوزى بالذهاب إلى سوريا لاستطلاع الأمر، وشهد شمس بدران فى محاكمته أمام حسين الشافعى التى حضرت جلستها وكتبت فيها مرافعة رئيسى آنذاك اللواء دكتور محمد عوض الأحول مدير القضاء العسكرى ونائب رئيس مكتب التحقيق والادعاء الذى ترأسه المستشار على نور الدين، وشاهدت وسمعت شهادة شمس بدران، ومناقشة المحكمة له، واستقصاء الرواية، فظهر جليًا أن الفريق الأول فوزى أبلغ فعلا بانعدام هذه الحشود المتذرع بها، بيد أنه وقد كان الأمر برمته ردةً فعلٍ لإخفاقات ونزيف اليمن، جرى التصميم ـ بقرار فردى ـ على إتمام مهرجان الحشد فى سيناء بمايو 1967، مقترنًا بقول المشير للرئيس: «برقابتى يا ريس»، وتداعت الأحداث فى سرعة حتى احتلت القوات الإسرائيلية فى ست ساعات من السادس من يونيو 1967، كامل سيناء، وكامل هضبة الجولان، والضفة الغربية للأردن بما فيها القدس الشرقية، ولا تزال للآن تحتل الجولان التى أعلنتها أمريكا
«إسرائيلية»، مثلما أعلنتا القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وكذلك الضفة الغربية وقطاع غزة اللذين لا يزالان تحت الاحتلال والعربدات والأطماع الإسرائيلية!
كانت الهزيمة عنيفة، ومع ذلك نشرت الصحف من يرقصون فى مجلس الشعب، وليفى أشكول وإصبعه على رأسه يفكر، وإنهاء خدمة موسى ديان رغم انتصاره، التزامًا بالمدة المحددة لرئاسة الأركان الإسرائيلية، أما الرقص الذى دار فى مجلس الشعب فكان ردة فعل هستيرية لما أعلنه أنور السادات رئيس المجلس، من أن
«جمال عبدالناصر قد قرر أنه باقٍ قائدًا وزعيمًا ورئيسًا للجمهورية» ـ ولم يكن ذلك غريبًا لمن قرأوا ما بين سطور المشهد، ففى كلمة الرئيس عبدالناصر التى بثت تليفزيونيًّا، لوحظ أنه لم يقل إن «المسئولية تقع عليه» ـ وإنما قال: إن
«المسئولية يجب أن تقع عليه» ـ وكلمة «يجب» كلمة محشرة قصدًا للإشارة إلى أن المسئولية تقع ـ فى الواقع ـ على سواه، ولا تقع عليه!!!
هذه الهزيمة الفادحة، مست مصر من أدناها إلى أقصاها، وزحزحت كثيرين عن مواقعهم، إلا المسئول الأول، وألقيت المسئولية على القوات الجوية، وعلى الفريق أول صدقى محمود بصفة أساسية، بينما كانت أوضاعها ظاهرة للعيـان، وسُمعـت شهـادة الفريـق عبدالمنعم رياض فى محاكمة قادة الطيران، يشهد بأن الفريق أول صدقى كلفه بالبحث فى سفريته إلى الاتحاد السوفييتى عن أسلحة متقدمة للتعامل مع الطيران المنخفض، ولمس فى حديثه شكوى ـ خجل الرجل لأقدميته من إبدائها صراحة ـ من تحكم الضباط الأصاغر بالقيادة العامة! كما أظهرت التحقيقات والمحاكمة أن الفريق أول صدقى قد اعترض على تلقيه الضربة الأولى، وأوضح أنها سوف تكون معجزة، إلا أن الرئيس عبدالناصر قرر أنه ليس أمامه بُدٌّ مـن أن يتحمّـل الضربـة الجويـة الأولـى، لاعتبـارات ـ سياسية ـ قدرها!!
وكان من اللافت أن يعين الفريق عبدالمنعم رياض لرئاسة المحكمة المنوط بها محاكمة صلاح نصر وشمس بدران، لولا أن هذا القائد الشجاع اعتذر بقوة عن هذه المهمة التى تتعارض كلية مع واجباته كرئيس أركان حرب القوات المسلحة بما تقتضيه من صمود، ومن إعداد القوات المسلحة التى فقدت معظم أسلحتها وعتادها فى الأيام الستة السوداء.
هذا وغيره كثير، دل على أن القصود منصرفة للتخلص من مسئولية الهزيمة، وإن كان الإنصاف يقتضى أن نبدى أن الرئيس جمال عبدالناصر بذل جهودًا مضنية لمغالبة الهزيمة حتى لاقى ربه فى 28 سبتمبر 1970، ومصر فى قمة معاناتها مما أوقعها فيه قرارٌ فردىٌّ غير موضوعى وغير مدروس!

التعليقات