ذات صباح فى عامنا هذا، وفى زمان لا تعرف فيه وزارة الصحة ما إذا كانت مصر تنتج ألبان الأطفال محليا، كنت أراجع مذكراتى التى أعدها للنشر«دواء وعلل: قصتى مع صناعة الأدوية». وتمهلت بفخر أمام الجزء الخاص بإنشاء صناعة أدوية وطنية خالصة والدور الذى لعبته وزارة الصحة آنذاك ووزيرها العالم الجليل الدكتور النبوى المهندس. وكيف امتلكت المؤسسة العامة للأدوية وقياداتها الرؤية والكفاءة العالية، والانتماء الوطنى، لتقديم العلاج اللازم للمواطنين، وإمداد ٥٠٠ وحدة صحية بالقرى بالأدوية اللازمة. فقامت بالاستفادة من المصانع الصغيرة المتواضعة الآلات والمعدات ورؤوس الأموال، وكوادر تلك المصانع الفنية الشابة، وإلى جانبها تأسيس شبكة من ثمانية مصانع جديدة تستهدف زيادة الإنتاج من ٥٪ إلى ٨٥٪ من الاحتياجات الدوائية من كل المجموعات الفارماكولوجية والمستلزمات الطبية المحلية.
كانت تلك الشبكة من المؤسسات والمصانع تكاملية. وقامت الهيئة العليا للأدوية بالدراسة الجادة وبتخطيط الاحتياجات. وعملت مؤسسة الأدوية على تحقيق هدف إتاحة الدواء لكل من يحتاجه فى الوقت المناسب، وضمان جودته وحسن استخدامه. وقد سبقت مؤسسة الأدوية التى تأسست فى عام ١٩٦٢ منظمة الصحة العالمية التى أصدرت لاحقا، فى عام ١٩٧٠، بخصوص الالتزامات الواجبة فى كل الدول تجاه علاج مواطنيها.
كان من حظى أن شهدت كيف استفادت المؤسسة بخبرات الرواد المؤسسين للصناعة فى أربعينيات القرن العشرين، مثل مؤسسى شركة مصر للمستحضرات التى أنشأها طلعت حرب، وشركة ممفيس للأدوية التى أنشأها الدكتور نصرى بدران، وغيرها من المصانع الصغيرة.
كما كان من حظى أن كان على يدى ميلاد أكبر شركة لصناعة الدواء فى الشرق الأوسط، شركة النيل للأدوية، وبناء مصنعها العملاق فى عامين، بأيد مصرية، والمستحضرات التى صممها الأساتذة العلماء بكل التخصصات لعلاج الأمراض المختلفة، وقام بتصنيعها الصيادلة بمختلف أقسام الشركة، وقام بالتخطيط لإنتاجها المخططون بالهيئة العليا للأدوية، ووفروا الكيماويات وباقى المدخلات اللازمة بأفضل الأسعار. وقامت مؤسسة الأدوية بحماية تلك الصناعة من المحاولات الدؤوبة لإفشالها من قبل شركات الدواء العملاقة التى كانت مصر تستورد منها معظم احتياجاتها من الأدوية والخامات.
وهكذا فى أقل من عشر سنوات، أصبحت مصر تنتج بالفعل ٨٥٪ من الأدوية وبعض خاماتها، مما كان الشعب المصرى يحتاجه آنذاك، ومن جميع الأشكال الصيدلية: بدءا بالخلاصات من النباتات الطبية، ومرورا ببعض المواد الفعالة التى صممها كبار أساتذة الطب والصيدلة، الذين صمموا وعدلوا أيضا الكثير من تركيبات المستحضرات الطبية اللازمة لعلاج أمراض المصريين، آخذين فى الاعتبار خصوصيته وتفضيلاته. وكان إنتاج هذه المستحضرات (نحو خمسة آلاف صنف من الحقن والأقراص والسوائل والمراهم واللبوسات والمحاليل)، باستخدام أحدث وأدق آلات ومعدات التصنيع فى عصرها، مع الالتزام بأدق النظم العالمية والتفتيش والمراقبة الدائمين.
كما اهتمت مؤسسة الأدوية بإنشاء صناعة كيماويات دوائية. وبذلت مجهودات عديدة للحصول على حق المعرفة know how من مصانع الغرب دون جدوى. لكن تم النجاح فى التعاون مع روسيا فى إنشاء مصنع لإنتاج المضادات الحيوية والسلفا ومشتقاتها والأسبرين بأيدى المصريين الذين تدربوا واستوعبوا أسرار هذه الصناعة الحديثة.
نحيت جانبا مراجعة ذكريات لحظة انتصار، لأقرأ عن تصريحات مسئول وزارة الصحة الذى اكتشف بالصدفة مصنعا لإنتاج ألبان الأطفال فى مدينة العاشر من رمضان، وبجودة عالمية تضاهى أحدث المواصفات ويصدر للعديد من الدول الأوروبية. وذلك بعد أزمة جاع فيها الرضع، وخرجت الأمهات ساخطة إلى الشوارع، كى تجبر وزارة الصحة على استيراد ألبان الأطفال. وتضاعف ثمن شراء العبوة، ليشق على الكثيرين شراؤه.
كيف وصلنا إلى هذه النقطة المحزنة؟ كيف دار الزمان فى خمسين عاما وعدنا إلى نسبة تغطية محلية ٥٪ فقط من احتياجاتنا الدوائية على الرغم من وجود نحو ١٢٠ مصنعا للدواء، والباقى عادت لتوفره الشركات الأجنبية سواء من فروعها فى مصر أو عبر الاستيراد، بدلا من التخطيط من أجل الإحلال التدريجى لكل الكيماويات المستوردة؟ كيف لم يحاول أحد القائمين على السياسات الدوائية إقامة هذه الصناعة الاستراتيجية؟
لا ألوم حكومة شريف فقط، بل بدأ تفكيك الصناعة بشكل ممنهج منذ السبعينيات، وتواصل فى عهد مبارك وحتى اليوم، لصالح الشركات الدولية العملاقة.
فقد جاءت التحولات التى قادها السادات، متبعا تعليمات البنك الدولى، لتضع الاقتصاد المصرى على طريق التحول من الاستقلال إلى التبعية (على حد تعبير عنوان كتاب عادل حسين الذى وثق تماما لهذه العملية). دشنت هذه اللحظة هجوما شرسا من شركات الأدوية الأجنبية على صناعة الأدوية، استمر خلال الحكومات المتعاقبة لحكم مبارك. وصارت نسبة لا تقل عن 40٪ من الاحتياجات المحلية تصنع فى المصانع المصرية لحساب الشركات الأجنبية under licence، وتحول الشركات أرباحها للخارج بالعملات الصعبة. وذلك دون أن تبنى مصنعا أو تعين عاملا، أو حتى تضيف مستحضرا لعلاج أمراض كالسرطان للصناعة محليا بدلا من الاستيراد من الخارج. بينما يمثل أغلب ما تنتجه مصانع الشركات الأجنبية المقامة فى مصر منافسا للمنتجات المصرية. أما الكيماويات فلم يفكر المستثمرون ولا الحكومة فى إنتاجها.
وفيما يخص ألبان الأطفال، التى بعث الله أحد أبناء مصر من العلماء الذين هاجروا إلى النمسا، وجاء وأقام مصنعا منذ عام ٢٠٠٢، على مساحة ٣١ ألف متر مربع، لإنتاج ٣٥ مليون علبة من جميع الأصناف ولكل الأعمار، فقد قام الفاسدون والمستوردون أيام حكم مبارك بشن حرب شعواء ضده، حتى توصلوا إلى إغلاقه، فيقوموا هم باستيراد كل احتياجات الأطفال وبالعملات الصعبة التى تقترضها مصر. وارتضى ملاك المصنع فيما بعد بقصر إنتاجه على التصدير كشرط غير مكتوب لإعادة نشاطه. فرحنا حين وقعت وزارة الإنتاج الحربى مع الرجل عقد إنشاء مصنع جديد لألبان الأطفال، دون أن نعلم تلك الخلفية. واليوم تغلب التساؤلات على الفرحة.
«خرطت تلك القصة على قلبى بصلا»، كما يقول المثل. ولكن لا يحدونى مع ذلك سوى التفاؤل. فاليوم مقومات النهوض بالصناعة متوفرة أكثر كثيرا مما كانت فى الخمسينيات. فلدينا اليوم مصانع كبيرة حديثة تزخر بموارد بشرية وكوادر فنية وعمالة مدربة تبلغ عشرات الآلاف، ورءوس أموال بالمليارات. فقط تنقص الرؤية والإرادة لتسخير تلك الإمكانات من أجل إنتاج احتياجات هذا الشعب من الأدوية، والقدرة على خوض معارك لإنشاء مصانع تنتج الكيماويات، كما كان مخططا فى الستينيات. وليس هذا الحلم على الله بكثير.