كرتونة الانتخابات ومغزاها الأوسع - بهجت قرني - بوابة الشروق
الإثنين 1 ديسمبر 2025 4:56 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

كرتونة الانتخابات ومغزاها الأوسع

نشر فى : السبت 29 نوفمبر 2025 - 5:55 م | آخر تحديث : السبت 29 نوفمبر 2025 - 5:55 م

الكلام الأخير عن التصحيح فى الدوائر وسلامة الإجراءات الانتخابية طبعًا مطلوب، ولكن رغم أهميتهما ​فهما نواحٍ فنية يسهل تداركها. أمّا كرتونة الزيت والسكر كجزء من المال السياسى فهى أصعب بكثير. هذا موضوع نعرفه جيدًا، ومع ذلك لم يتم التعمق فى تحليله علميا فى منطقتنا، ومعظم الكتابات تقوم بإدانته، وعن حق. ولكن إذا كنا نبغى القضاء عليه، فيجب البحث فى أسبابه حتى يتمّ مواجهته بفاعلية. بداية يجب أن نعرف أن الترابط بين المال والسياسة ظاهرة تاريخية وحاليّا عالمية بمعنى الكلمة، ولكن مظاهرها هى فقط التى تتنوع طبقًا لحالة المجتمع.

وفى الحقيقة أهم من تعرض لها بإسهاب وبعمق كان كارل ماركس، كجزء من نظريته عن أن الاقتصاد هو من يحكم كل شىء فى المجتمع، من المستوى الفردى فى الزواج مثلًا إلى المستوى العالمى فى العلاقات بين الدول. بالطبع لا يستطيع أحد منا أن يعيش أو يستمر دون الموارد المالية اللازمة​، ولكن ما يتفق عليه مفكرو العلم - سواء كانوا ماركسيين أم لا - هو كيفية حماية إ​را​دة الفرد أو المجموع دون تأثير خارجى​، بالترغيب أو التهديد. كرتونة السكر والزيت والأرز هى فعلًا الرمز والمؤشر الواضح الذى يمثل هذا التأثير الخارجى، بل الخطر الذى يجسد فعلًا شراء إرادة الفرد بمعنى حرفى. والحقيقة أن هذه الكرتونة تطورت على مر السنين بحيث أصبحت صناعة متقدمة لها تجارها وسماسرتها؛ فهناك بالفعل شبكات تُجّار الانتخابات، بحيث أصبح شراء الأصوات، بل شراء الذمم، فرصة للنشاط الاقتصادى أو الا​سترزاق. وتصبح الحاجة إلى الكرتونة أكثر وأكثر عندما تشح كميات السكر والزيت وغيرها من السلع الأساسية المعروضة فى السوق أو ترتفع أسعارها بحيث يصعب شراؤها بالنسبة للغالبية الكبرى من الناس. ولذلك يعتقد بعض أبناء الطبقة الشعبية الذين يبيعون أصواتهم أنهم لا يرتكبون إثمًا، بل إنها وسيلة للحصول على ما يحتاجون إليه: «حَبّة فَتفو​تة من حقنا»، كما عبّر عنها أحد هؤلاء الفقراء.

بل تتسع الدائرة وينضمّ إلى هذا الشعور بالانتخابات كا​سترزاق العديد من العاملين فى المحلات التجارية الذين يرون رواج المبيعات من سكر وزيت وأرز وغيرهما من البضائع الأساسية التى يتم استخدامها​ لشراء الأصوات​ فرصة للتربح، لأن القائمة الآن تتسع لتشمل العديد من الاحتياجات الشعبية مثل الأنبوبة التى أصبحت إغراء هائلًا بسبب ارتفاع أسعارها فى فترة زمنية بسيطة. الكرتونة فى أبسط معانيها هى إذن تعبير عن بؤس المجتمع، ولكن نتائجها السياسية غاية فى الخطورة، لأنها تؤدى إلى انتخاب نواب لا يمثلون بالمرة الإرادة الشعبية، بل يعكسون من يدفع أكثر، وبالتالى تمثل أول صورة من تزوير الإرادة الشعبية وشعور العديدين بأن الجهاز التشريعى ليس له مصداقية.

وقد يؤدى هذا إلى عدم المشاركة فى الانتخابات، أو أن تكون هذه المشاركة دفع «دين» الكرتونة، أو فى بعض الأحيان الخوف من الغرامة، ولكن فى جميع الأحوال ليست مؤشرًا على الحماس الديمقراطى كما هو الحال فى الدول الغنية وكما تُروّج لذلك النظرية الديمقراطية الكلاسيكية وهواة الجداول الرقمية. ولكن يجب أن نعرف أن العلاقة والترابط بين المال والسياسة لا يختفيان فى هذه الدول الأخيرة، ولكن ​يتخذان صورًا أخرى.

فهو يرتبط مثلًا بالمؤسسات أو كبار رجال الأعمال الذين يمولون الحملات الانتخابية للحصول على رصيد سياسى فيما بعد. مثلًا، لقد تمت محاكمة الرئيس الفرنسى الأسبق ساركوزى وإدانته بسبب الحصول على أموال من الرئيس الليبى السابق معمر القذافى لتمويل حملته الرئاسية، ثم السماح مثلًا للقذافى بإقامة خيمته فى أكبر ميادين باريس أثناء زيارته فرنسا.

كما نعرف أيضًا أن الملياردير إيلون ماسك يفتخر بتمويل حملة ترامب الرئاسية، بل ويصرّح علنًا أنه لولا تأييده لم يكن ترامب حاليًا فى البيت الأبيض. فى الحقيقة، اسم ترامب يذكّرنا بأكثر الأمثلة فجاجة فى العلاقة بين المال والسياسة، فهو يدير السياسة الأمريكية بمنطق صفقات رجال الأعمال؛ ومن هنا كانت أول الزيارات الرسمية التى قام بها فى دورته الأولى لدول الخليج.

وعندما يتكلم عن هذه الدول حتى الآن يكون التركيز على مواردها المالية. بل هى نفس الطريقة التى يفكر ويعمل بها زوج ابنته جاريد كوشنر، الذى قفز دون خبرة ليكون «مستشاره» للشرق الأوسط واستغل منصبه فى مجلس الأمن القومى لكى ينشئ شركته الخاصة بالتعاون مع دول الخليج، ولكن أساسًا لاستجلاب أموالهم. وكان هذا التخطيط من الفجاجة بحيث إن بعض أعضاء الكونجرس عبّروا عن انزعاجهم من استغلال منصبه الرسمى لأغراض شخصية وامتهان أبسط القواعد المهنية لكى تصبح السياسة أسيرة للمال.
 

 أستاذ العلاقات الدولية والاقتصاد السياسى فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة
المؤسس والمدير السابق لمنتدى الجامعة الامريكية

 

التعليقات