زمن الكتاب الصوتى - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 1 مايو 2025 2:17 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

زمن الكتاب الصوتى

نشر فى : الأربعاء 30 أبريل 2025 - 8:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 30 أبريل 2025 - 8:30 م

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالًا للكاتب سفيان البرّاق، تناول فيه مميزات وعيوب ظهور تقنية الكتاب الصوتى مقابل الكتاب الورقى.. نعرض من المقال ما يلى:
الملاحظ فى هذا الزمن هو أن التقنيات والتطور التكنولوجى قد تفشى ومس مختلف مناحى الحياة، وما ترك مجالًا إلا واحتله وأثر فيه، وذلك يظهر بجلاء كبير من خلال انتشار كتب تنعت بالكتب الصوتية التى غزت حياتنا، وقلبت معنى القراءة، وغيرت معالم هذه العادة بعدما أضحى الإنسان يسمع كتابًا من دون أن يتجشم عبء التنقل إلى المكتبة مضيعًا كومة من المشاعر المتمخضة عن النبش عن كتاب نادر فى وسط الآلاف من الكتب، مفوتًا عليه ضخ الانتعاش فى نياط قلبه جراء شم رائحة الأوراق البالية. كما أنه لم يفلح فى اكتشاف لذة تدوين الهوامش والتعليقات فى حواشى الكتب، والتسطير على العبارات التى تلامس أوتار قلبه، وقد تخدم فكرة يعمل على توضيحها، فضلًا عن أن مطالعة الكتاب الورقى تقتضى التركيز، وتحث النفس على التفاعل مع ما يقرأه المطالع.
قد يتقدم منافح عن هذه التحولات التى بات يرزح تحتها الإنسان المعاصر، ويزعم أن الإنسان يجب أن يكون مواكبًا للتبدلات التى طرأت على دنيانا، وألا يكون بمنأى عن الواقع، وما ينضح به. وهذا زعم معقول. لكن النزوع إلى الكتب الصوتية هو نتاج للتسارع الذى أضحى يلف الزمن فى هذا العصر؛ إذ إن الإنسان لا يجد وقتًا ليقرأ الكتاب الورقى وهو الذى لا يعود إلى بيته إلا مساء بعدما هد التعب بدنه، وارتجت نفسه من تعاسة الروتين، وقلقل الجوع كبده، وهو ما يدفعه إلى سماع هذه الكتب وهو على متن السيارة مشتت الانتباه فى ظل ازدحام خانق، أو وهو يتبضع ويتخير ما تشتهيه نفسه من أشياء قابلة للاستهلاك فى ظل ضوضاء تغمر مراكز التسوق التى تبعث على التوتر فى النفس وتدحر الروية، أو يسمعه حينما يكون فى صالة الرياضة يسعى جاهدًا إلى محاربة البدانة وتبديد الطاقة السلبية التى تراكمت جراء تكالب المشاعر السيئة على نفسيته من إنهاك وتوتر وتفكير زائد فى تفاصيل حياته اليومية: مصاريف الاستهلاك، قروض البنك، التفكير فى تغيير الأثاث والسفر... إلخ. وحاصل القول إن القراءة فعل يحتاج إلى صفاء الذهن، ويقتضى راحة تعم القلب، ويتطلب شغفًا استثنائيًا للتسكع بين ردهات الكتب، من دون أن توجد ملاهٍ قد تذهب العقل، وتشوش على التركيز والتروى الضروريين فى أثناء ممارسة هذه العادة.
• • •
لقد شوهت التقنية هذه العادة النبيلة، وزجت بالكتاب الورقى فى دواليب النسيان والإهمال. والأدهى من كل هذا هو أن الإنسان لم يستغل وفرة التكنولوجيا ليقوى علاقته بالقراءة، ويعزز صلته بها، بل نحا منحى آخر يتجلى فى الجنوح إلى الأشياء السهلة، المتاحة، المتوافرة لدى مختلف الناس بدعوى استغلال نتائج التقنية.
ولعل ما نتج عن ذلك هو أن الإنسان صار فاقدًا للمقدرة على التركيز، وبالتالى أضحى العقل عنده مكبلًا، عاجزًا عن التفكير المتريث، بل ميالًا إلى التفاصيل السطحية التى لا ترغمه على رفع منسوب التركيز والتفكير المتمهل. لذا لا انذهال حينما نسمع أن الناس باتت تجنح صوب الكتب الصوتية أو تلاخيص الكتب عبر «كبسولات» جوفاء، وفى غاية الاقتضاب، التى اجتاحت «السوشيال ميديا»؛ لأن الكائن البشرى صار الآن متولعًا، مفتونًا بالأشياء المختصرة، المختزلة.
ولعل ما يلاحظ هو أن طاقة الجلوس ومسك الكتاب والقراءة بتريث، وتلافى كل ما قد يغتال التركيز، وإعمال النظر فى كل فكرة يتلقاها مستعينًا بالبصيرة، لا مكتفيا بالبصر وحده، وأن يكون دائبًا على أمور رئيسة: التأنى فى القراءة، دحر الملاهى، ضرورة الانعزال، استدعاء قدر عالٍ من الانتباه، الشك فيما يقرأ، مرورًا بالتفكير فى مضامين الكتاب جديًا وتحليلها، وصولًا إلى نقدها، وهى خواص باتت مفقودة فى هذا الزمن الضنين على عادة القراءة؛ حيث صارت فيه وسائل القراءة كثيرة ومريحة، بينما تضاءل المهتمون بها، غير أن طائفة ممن سكنهم شغفها هم من صنعوا الاستثناء وظلوا أوفياء لها وحرسوها من البوار.
• • •
قد لا يختلف اثنان حول أن تجربة الحداثة الغربية هى تجربة انضوت على جملة من المحاسن التى استفاد منها الكائن البشرى، وسهلت حياته، وجعلتها يسيرة. وهذا مستحب ومرغوب فيه، غير أن هذه المحاسن لا يمكن أن تخدعنا وتجعلنا غافلين عن المساوئ التى رافقت تجربة الحداثة بعد الاكتشافات العلمية اللماحة خلال القرن السادس عشر، وأعقبتها ثورة هائلة فى التصنيع والإنتاج خلال القرن التاسع عشر، وما لبثت هذه الثورة الصناعية أن تحولت خلال القرن العشرين إلى ثورة باعثة على الانذهال فى إنتاج الوسائل والتقنيات المتطورة التى امتلكها الإنسان وسعى إلى توظيفها، لتغزو حياته، وتجعل اليد شبه معطلة وخارج الخدمة، وأخذت تزحف تدريجيًا حتى وصلت إلى مرحلة تحاول فيها شطب الكتاب الورقى؛ حيث تفشت، منذ سنوات، الكتب الإلكترونية وأخذت تنتشر مخلفة سجالا بين الولعين بالكتاب الورقى وبين المتبرمين من هذا الأخير، الذين رأوا فيه عبئا لا يحتمل؛ ذلك أن الإنسان صار بإمكانه اقتناء لوحة إلكترونية ليبدأ فى التنقل بأريحية تامة بين الكتب التراثية الضخمة المكونة من مجلدات ثقيلة. بيد أنى أعتقد اعتقادًا راسخًا، وفى غاية الجدية، أن المتعة التى يجدها الإنسان فى تصفح الكتاب الورقى غير قابلة للمقايضة فى كل الأحوال والظروف.
بعد هذا السجال ظهرت الكتب الصوتية الخالية من الإمتاع والمؤانسة؛ حيث يشرع إنسان نصب نفسه قارئا فى نقل صفحات عديدة من الكتاب صوتيًا بلا أى شعور ينبئ بتأثره بالحدث أو بتفاعله مع القضية، بل الأنكى أنه ينقل النص بلا أى شعور إنسانى قد يؤثر فى المستمع. وهذه المهمة يمكن للآلة أن تتولاها فى ظل هذه الثورة المربكة التى بات يعيشها العالم منذ اكتشاف تطبيقات الذكاء الاصطناعى التى غيرت جملة من المعانى التى كانت تسرى فى العالم من ذى قبل مثل معنى الإبداع؛ حيث صار برنامج من هذه البرامج يشيد نصوصا أدبية باذخة من دون أى نفس إنسانى، بل الأدهى هو أن الإنسان حينما يقرأه قد لا يلحظ تباينات عديدة مع نص كتبه إنسان ما.
• • •
إن الكتاب الصوتى هو تجلٍ واضح للأزمة التى لفت الإنسان المعاصر؛ الفاقد للصبر والقدرة على التحمل، المعجب بالإيجاز الشديد، المحب للأشياء البديهية والمألوفة، المفتون بوسائل الراحة، المغرم بوضعيات الكسل والخمول، المتبرم من التفاصيل المعقدة التى تستفز ذهنه وترغمه على روية التفكير، وقد ينجم عن ذلك تعب العقل، وهو ما صار يتفاداه. علاوة على أنه غدا هاربا من كل نشاط يستوجب قدرا من الجهد واستعمال جل جوارحه؛ لذا فإنه أضحى يفضل سماع كتاب من دون أن يكلف نفسه عناء القراءة واستحضار التركيز واستدعاء البصيرة. جدير بالذكر هنا أن الإنسان المعاصر بات لا يتحمل المسئولية كاملة فى هذه الأزمة؛ إذ إن التقنية حينما ذاعت وانبسطت وغمرت حياته لم يجد سبيلًا ناجعًا أو طريقة محكمة للتعامل معها باعتدال ويتحكم فيها؛ وذلك ما أدى إلى خنقه وجعله لعبة مطاطية فى يدها تشكله وتسيره وتصيره كيفما تبتغى، ومن دون أن يبدى منافحة تذكر أمام كل ذلك. فصار يعيش حياة لم يختلقها هو، بل فرضت عليه. وصار يسمع الكتاب الصوتى ليوهم نفسه بأنه «قارئ» له وشائج بالكتب. غير أن القراءة أعمق من أن تختزل فى كتاب صوتى تسمعه. صحيح أن «الأذن تعشق قبل العين أحيانًا»، كما قال بشار بن برد، بخاصة إذا تعلق الأمر إما بإنسان ضرير عوض عينيه بأذنه، أو بالموسيقى، وكل ما يلطف النفس ويهذب طباع المرء، إلا أن ذلك لا يستقيم إطلاقا فى عالم القراءة.


النص الأصلى:

التعليقات