كان 8600 إسرائيلى يسكنون كتلة «غوش قطيف» المكونة من 21 مستوطنة جنوبى قطاع غزة عندما نفذت حكومة آرئيل شارون خطتها لفك الارتباط عام 2005 ورحّلتهم إلى أحياء جديدة بعكا ويافا واللد والرملة. لم يكن الهدف بريئا ولا اعترافا بالهزيمة بعد فشل عملية «أيام الغفران» خريف 2004 فى القضاء على الإمكانات العسكرية لكتائب القسام، بل كانت خطوة تكتيكية للتهرب من الضغوط الأمريكية آنذاك لتمكين السلطة الفلسطينية من أراضيها، بحيث تُفكك كتلة غوش قطيف بالإضافة إلى أربع مستوطنات فقط شمال الضفة الغربية مقابل استمرار سيطرة الاحتلال على حدود القطاع ومرافقه ومعابره.
استعاد وزير المالية الإسرائيلى بتسلئيل سموتريتش ذكرى «غوش قطيف» منذ أيام تزامنا مع تسريبات من مكتب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو للصحف عن خطة جديدة للسيطرة على غزة تدريجيا وإعادة احتلالها بالكامل وضمها إلى الدولة العبرية. وبالنسبة لسموتريتش «غوش قطيف» لا تكفى، بل زرع مستوطنات وإقامة مناطق عسكرية واستراتيجية بكامل مساحة القطاع.
على وقع كارثة الإبادة والتدمير الشامل التى حلت بأشقائنا فى غزة جراء الاستخدام المفرط للقوة وتحطيم جميع قواعد الاشتباك ومخالفة قواعد الشرعية الدولية كافة، يعتقد البعض أن مخطط ضم غزة جديد. ويردد آخرون ذلك بسوء نية زاعمين أن المخطط ناتج عن تعسف حماس فى المفاوضات. لكن الحقيقة أنه اتجاه قديم ينبغى استعادة بعض محطاته لفهم أهدافه الشريرة.
فى يناير 2024 وقبل أن تظهر للعالم مؤشرات دقيقة على حجم الدمار الذى قرره نتنياهو، شارك 11 وزيرا فى مظاهرة احتفالية من أجل تهجير الفلسطينيين من القطاع وإعادة استعماره. يومها قال بعض المتحدثين: «الفلسطينيون فقدوا حقهم فى العيش هناك» ووزعت فتيات صغيرات منشورات تحمل خرائط جديدة لغزة تزدحم بالمستوطنات على ساحلها «الجميل» كما وصفه يوما الرئيس الأمريكى ترامب.
وقبل «طوفان الأقصى» وتحديدا فى مايو 2023 قال سموتريتش فى لقاء مع القناة 14 العبرية: «سيحين الوقت لنجد أنفسنا أمام خيار وحيد هو استعادة غزة، رغم أننا لا نناقش هذا الموضوع الآن».
وفى مارس 2023 طالبت وزيرة الاستيطان أوريت ستروك بإلغاء قانون الانسحاب الذى كان الغطاء التشريعى لخطة فك الارتباط، داعية عبر قناة «عروتس 7» إلى «تجديد الاستيطان فى شمال الضفة، ثم العودة إلى غزة» معتبرة أن هذا الأمر سيكون بمثابة «تصحيح لخطيئة» على الرغم من توقعها لـ«سقوط العديد من الضحايا لدى عودتنا إلى القطاع».
وبالعودة إلى منتصف تسعينيات القرن الماضى، يفصح نتنياهو فى كتابه التنظيرى المهم «مكان تحت الشمس» الذى كرسه لمعارضة اتفاق أوسلو، عن رؤيته للدولة الفلسطينية فى غزة والضفة، إجمالا، باعتبارها «حصان طروادة» العربى الذى يهدف فقط إلى تقويض إسرائيل وتفجيرها من الداخل، رافضا بشكل مبدئى سيطرة «سلطة من الإرهابيين والاستبداديين» على المنطقتين، وهو ما ترجمه لاحقا من فوق منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة مرتين بعرض خريطة لإسرائيل تضم الأراضى الفلسطينية المحتلة كافة، من البحر إلى النهر.
قفزة أخرى إلى الوراء.. خلال محادثات السلام كان الرئيس الراحل أنور السادات يرفع شعار «غزة أولا» محاولا إقناع الرئيس الأمريكى كارتر ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجن بضم غزة إلى سيناء فى محادثات مراحل انسحاب قوات الاحتلال «هذه أرض استولوا عليها من مصر مع سيناء، لا أستطيع قبول سيناء وترك غزة» على حد تعبيره مخاطبًا كارتر فى اتصال رسمى بتاريخ 12 نوفمبر 1978 كشفت تفاصيله وثائق الخارجية الأمريكية.
وتكشف المذكرات الداخلية لهيئة الأمن القومى الأمريكى مطلع 1979 كيف رفض الإسرائيليون مطلب «غزة أولا» بحجة أن الفصل بين القطاع والضفة غير منطقى، مما انعكس بالسلب لاحقا على مفاوضات هرتسليا وهولندا 1980 حول الحكم الذاتى الفلسطينى، والتى استخدم فيها بيجن كل أوراقه للعرقلة حتى تم تعليق الأمر برمته عقب غزو لبنان 1982.
والحقيقة التى تعكسها المحطات السابقة أن غزة مطمع للاحتلال منذ سيطر عليها لفترة وجيزة فى أعقاب العدوان الثلاثى، حيث تبينت أهميتها الاستراتيجية كمفتاح لسيناء ومركز للضغط الاستراتيجى على مصر والدفاع عن الأراضى المحتلة، كوجهين لعملة واحدة، وأضيفت مؤخرا تصورات لاستغلالها اقتصاديا وسياحيا.
لا ضم بدون احتلال، ولا احتلال بدون استيطان، ولا استيطان بدون «ترانسفير» كامل بالنقل القسرى والتجويع والقتل الجماعى.
وواجب الوقت الذى يحتم علينا مصارعة الزمن واستخدام كل الوسائل بقوة، هو منع ضم غزة بأى ثمن، دون توريط مصر فى إدارة القطاع بأى ذرائع لن تفيد مستقبلا إلا الاحتلال.