ينشغل الرأي العام بقضية تلاميذ مدرسة "سيدز" المتهم فيها حتى الآن سبعة من العاملين بارتكاب جرائم اعتداء بشعة بحق الأطفال. وثارت عاصفة من المطالبات لإعمال "العدالة الناجزة" في الواقعة، وإعادة النظر في التشريعات المعنية لتشديد العقوبات.
تضاعف الجدل بعدما أعلنت النيابة العامة تسليم أوراق القضية والمتهمين إلى النيابة العسكرية لتتولى استكمال التحقيقات، دون إعلان الأسباب، فتباينت ردود الفعل. امتدح فريق ذلك الانتقال باعتباره يعكس إرادة "الردع والزجر والتحرك المغلظ" بعد تكرار تلك الجرائم الخطيرة، وفي المقابل انتقد آخرون تدخل النيابة العسكرية باعتبارها غير مختصة، لا سيما وأن النيابة العامة قد أعلنت نتائج متقدمة وسريعة في التحقيقات أبرزها ضم ثلاثة متهمين جدد وانتزاع اعترافات من اثنين.
والإشكال الأول هنا في ظل غياب المعلومات: ما السند القانوني للإحالة؟ فلا يوجد في قانون القضاء العسكري نصوص تجعله مختصًا بنظر القضية كما روى تفاصيلها أولياء الأمور والمحامون. كما أُلغيَ قانون تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية 136 لسنة 2014 المعدل بالقانون 151 لسنة 2021 الذي سمح بمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في العديد من الوقائع، وألغت المحكمة الدستورية العليا بعض تلك الإحالات.
لكن بالنظر للتشريعات الصادرة في السنوات الأخيرة نجد أن القانون 3 لسنة 2024 يتضمن نصًا يمكن استخدامه لإحالة بعض أنواع القضايا أو وقائع معينة إلى القضاء العسكري، بالمادة الثانية، التي تنص على أن يتعاون مأمورو الضبط القضائي بالقوات المسلحة مع الشرطة لمواجهة "الأعمال أو التعديات التي من شأنها الإخلال بسير عمل المرافق العامة والحيوية بالدولة أو الخدمات التي تؤديها، وبالأخص الجرائم التي تضر باحتياجات المجتمع الأساسية من سلع ومنتجات تموينية". إلى هنا يبدو الأمر قاصرًا على جرائم اقتصادية وخدمية معينة. لكن المادة تختتم فيما بعد بحكم أكثر اتساعًا: "وذلك كله بما يحفظ المقومات الأساسية للدولة ومكتسبات الشعب وحقوقه أو مقتضيات الأمن القومي، والتي يصدر بها قرار من رئيس الجمهورية أو من يفوضه بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني".
يمكن القول إن تلك الصياغة الفضفاضة تسمح بإحالة المدنيين في بعض الحالات إلى القضاء العسكري، بعد إشراك مأموري الضبط القضائي بالقوات المسلحة في أعمال القضية، إذا كانت تمس بما تصفه المادة بـ"المقومات الأساسية للدولة ومكتسبات الشعب وحقوقه ومقتضيات الأمن القومي" وهي تعبيرات لم يقدم القانون تعريفًا لها ولم يحدد ما يترتب عليها، وفوّض في ذلك رئيس الجمهورية أو من ينيبه.
ويتعلق الإشكال الثاني بحدود محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري على ضوء نصوص الدستور والمبادئ المفسرة لها الصادرة من "الدستورية العليا" عندما نظرت بعض آثار قانون "حماية المنشآت" فوضعت ثلاثة شروط: 1- أن يمثل الفعل اعتداءً مباشراً على المنشآت العسكرية وما في حكمها أو التي تتولى القوات المسلحة حمايتها. 2- أن يقع الاعتداء حال قيام القوات المسلحة بتأمين وحماية المنشآت والمرافق والممتلكات العامة تأميناً فعلياً وليس حكمياً. 3- إعمال القواعد العامة الحاكمة للتجريم والعقاب وأن تُحدد على أساسها المسئولية الجنائية للمدنيين. وشددت "الدستورية العليا" على أنه إذا لم يتوافر أي من تلك الشروط في الجريمة فيجب أن يظل اختصاص نظرها للقضاء العادي وحده باعتباره صاحب الولاية العامة بالفصل في الجرائم.
وهناك إشكال ثالث يتعلق بقواعد المحاكمة في القضاء العسكري نفسه ومدى ملاءمتها لمثل هذا النوع من القضايا. نعم؛ اكتسب القضاء العسكري صفة الجهة القضائية المستقلة وبات أعضاؤه مستقلين غير قابلين للعزل بموجب المادة 204 من الدستور، وأصبح تكوينه وتدرجه مشابهًا للقضاء العادي بعد إصدار القانونين 16 لسنة 2007 و12 لسنة 2014. ولكن أحكامه لا تصبح نهائية إلّأ بعد التصديق عليها (مادة 81)، كما لا يًقبل فيه الادعاء بالحق المدني (مادة 49) وهو أمر مهم في قضية التلاميذ.
ثم علينا التوقف أخيرًا عند ما توحي به الإشادات بأن مسار القضاء العادي ليس ناجزًا أو ناجعًا. هذا ادعاء خاطئ تمامًا، والمتابع يلحظ في السنوات الأخيرة الحرص الكبير على سرعة التحقيق في القضايا ذات البعد الاجتماعي، والعقوبات المشددة تشهد في قضايا مشابهة مثل "طفل دمنهور".
كما أن هذا الادعاء يتناقض مع أسس دولة القانون ويضرّ بصورة العدالة، بل ويسيء إلى القضاء العادي والعسكري معًا، فكأن الأول بطيء وغير كاف لاستيداء الحقوق والردع العام، ويُظهر الثاني وكأنه استثنائي وأسرع من الإجراءات الطبيعية.
تلك النقاط ينبغي التدبر فيها من زاوية دولة القانون المنشودة، ومبادئ الدستور المنظمة للفصل بين السلطات وحق كل مواطن في المحاكمة أمام قاضيه الطبيعي.