أقام المجلس الأعلى للثقافة حفل توقيع كتاب "ابن تغري بردي وكتابه النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" للكاتب الدكتور محمد محمد مغاوري، وذلك ضمن مبادرة "تراثك ميراثك".
وأدار النقاش الدكتور أيمن فؤاد أستاذ التاريخ الإسلامي وخبير المخطوطات، وشهدت الفاعلية مشاركة كل من: الدكتور أشرف أنس؛ أستاذ التاريخ الإسلامي كلية الآداب جامعة المنصورة، والدكتورة سهر سيد دسوقى؛ الباحثة فى التاريخ الإسلامى، والدكتور عمرو منير؛ أستاذ التراث والتاريخ الوسيط، وعضو هيئة التدريس بكلية الآداب جامعة جنوب الوادى وعضو لجنة التراث الثقافي غير المادي والفنون الشعبية.
افتتح الحديث مدير النقاش الدكتور أيمن فؤاد، موضحًا أن كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" يُمثل موسوعة تاريخية ضخمة ألّفها المؤرخ المملوكى جمال الدين يوسف بن تغرى بردى فى القرن التاسع الهجري، ويُعد من أهم مصادر التأريخ لمصر الإسلامية منذ الفتح العربى حتى أواخر العصر المملوكي؛ حيث يعرض الكتاب سِيَر الحكام والولاة والسلاطين، ويجمع بين السرد الزمنى للأحداث والتحليل الشخصي، ليقدّم رؤية شاملة عن الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية فى مصر، كما يعكس من خلاله المؤلف انتماءه لدوائر الحكم ونظرته الخاصة للتاريخ، مما يجعل هذا العمل ليس مجرد تأريخ للملوك، بل وثيقة تكشف طبيعة السلطة والخطاب التاريخى في عصره.
ثم تحدث الدكتور أشرف أنس موضحًا أن اللافت في كتاب "النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة" للمؤرخ المملوكى ابن تغرى بردى الذى يعتبر أحد أبرز المصادر التاريخية التى تؤرّخ لتاريخ مصر من الفتح الإسلامى حتى أواخر القرن التاسع الهجرى، هو توثيقه التفصيلى وملاحظات المؤلف الشخصية التى تكشف عن نظرته الخاصة للأحداث والشخصيات.
وفي مختتم حديثه أشار إلى أن هذا الكتاب كذلك يتميز بالتباين الظاهر بين الانتماء إلى السلطة والنقد الضمنى لها؛ فهو يجل السلاطين ويمدح إنجازاتهم، لكنه لا يتردد فى كشف الفتن والاضطرابات والانهيارات من داخل الدولة. ومن هنا، يُعد "النجوم الزاهرة" أكثر من سجل وقائع؛ فهو مرآة لوعى مؤرخ عاش فى قلب السلطة وكتب التاريخ من داخلها، مما يجعله مادة غنية للتحليل النقدى حول العلاقة بين المعرفة التاريخية والسلطة، وبين الرواية الرسمية والواقع المعاش.
ثم تحدثت الدكتورة سهر سيد دسوقى موضحة أننا حين نتحدث عن "النجوم الزاهرة" فإننا لا نتحدث فقط عن مصدر تاريخى ضخم؛ بل عن ذاكرة مصرية خالصة، سجلت ما يقرب من خمسة قرون من التاريخ السياسى والاجتماعى والاقتصادى والدينى لمصر بداية من الفتح الإسلامى وحتى أواخر العصر المملوكى، ومع ذلك فان هذا النص لم ينل برغم ضخامته ما يستحقه من القراءة النقدية والتحليل البنيوى والمنهجى، وهنا تأتى أهمية هذ الكتاب الذى بين أيدينا اليوم؛ فقد قدم الدكتور مغاورى قراءة نقدية متزنة، كشفت عن منهج ابن تغرى بردى في التاريخ وتكوينه الثقافي ومصادره وميوله بل وتحيزاته أيضًا، وهو ما يضعنا أمام رؤية متكاملة للنص والمؤلف والسياق.
وتابعت مشيرة إلى أن هذا الكتاب تناول بعمق البنية الأسلوبية "للنجوم الزاهرة"، وتوقف عند لغته ومصطلحاته بل ودرس الطريقة التى عالج بها المؤلف الأحداث السياسية وشخصيات السلاطين، كما نجح فى رصد ملامح التداخل بين التاريخ والسيرة والخطاب السلطانى.
وفى مختتم حديثها أكدت أن هذه النوع من الدراسات لا يعيد فقط إحياء النصوص القديمة؛ بل يعيد تشكيل وعينا بها، ويعلمنا كيف نقرأ التراث، باعتباره حركة فكرية قابلة للفهم ووالنقد، وقد استطاع المؤلف أن يعيد لنا النص، لا كأثر ماض، بل كوثيقة حية تتنفس بأسئلتنا الراهنة.
ثم تحدث الدكتور عمرو منير قائلًا: "الكتاب الذى بين أيدينا ليس مجرد عرض لحياة ابن تغرى بردى أو فهرسة لمؤلفاته، بل هو دراسة متكاملة تحاول أن تفكك البنية الفكرية والتاريخية لكتاب "النجوم الزاهرة"، فى ضوء العوامل المؤثرة فى تكوين المؤرخ، ومرجعياته، ومنهجه، وموقعه ضمن مدرسة التأريخ المصرى، بل وتحاول إعادة قراءة مقاصده التأويلية وتقييم مدى موضوعيته، دون الوقوع فى التبجيل أو التبخيس.
وأشار إلى أن الجهد المميز فى تحليل محتوى كتاب "النجوم الزاهرة" ليس فقط من الناحية السياسية، بل بالعودة إلى جوانبه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهى موضوعات لطالما أهملت فى دراسات المؤرخين المملوكيين، فجاء هذا الكتاب ليسد فراغًا مهما، ويمنحنا قراءة أكثر تركيبا لنص "ابن تغرى"، وإذا كان لى أن أوجز انطباعى العام عن هذا الكتاب، فأقول إنه يسهم فى إعادة تقديم النجوم الزاهرة" ليس فقط بوصفه موسوعة تاريخية، بل كوثيقة إثنوغرافية عن الدولة والمجتمع والسلطة في عصر المماليك، ويمنحنا أداة لفهم كيف كان المؤرخ يكتب الدولة، لا كما هى فقط، بل كما يجب أن تُروى، وفى مختتم حديثه تساءل؛ هل نقرأ التاريخ، أم نقرأ المؤرخ؟
واستطرد موضحًا أنه يبدو للوهلة الأولى أن "النجوم الزاهرة" كتاب يؤرّخ لملوك مصر، من الفتح العربى فى نهاية القرن التاسع الهجرى لكن القراءة الثانية تكشف أنها أمام خطاب مزدوج تأريخ رسمي للسلطة، وسيرة ذاتية ضمنية لكاتبه؛ فابن تغرى لا يكتفى بسرد الوقائع، بل يحرص على الحضور داخل النص: بمواقفه، بتقويمه، بانحيازاته، بل أحيانًا بمشاهداته الشخصية، وهنا يحضرنى ما نبه إليه فلاسفة التأويل من أمثال "بول ريكور" و"هايدن وايت" و"ميشيل فوكو": الذي نبه إلى أن كل خطاب تاريخى هو ممارسة سلطوية تنتج المعرفة وتطوعها؛ لذا فإننا حين نقرأ ابن تغري بردى، لا نقرأ فقط ملوك مصر، بل نقرأه هو نفسه، كما لو أن نصه كان سيرة ذاتية مقنعة وراء قناع التأريخ الرسمي؛ فمن الخطأ أن نقرأ ابن تغرى بردى كصاحب أجندة سلطانية، فقد كان ابن البلاط، ابن الأمير، المقرب من أصحاب النفوذ، لكنه أيضًا كان شاهدًا مأزومًا، يسجل وفى ذهنه إحساس متوتر بالتحول والانهيار، لقد كتب التاريخ من داخل السلطة لا باسمها، وهذا يضعنا أمام سؤال فلسفى: هل التاريخ الذى يُكتب من الداخل أكثر صدقا، أم أكثر خضوعًا؟
وتابع: "في النجوم الزاهرة، نلمح هذا الازدواج: فهو يجل السلطان، لكنه لا يتردد فى فضح الفتن والسحل والغدر والتهتك، وكأنه يقول أن الشر يكمن فى صلب الدولة لا فى أعدائها فقط".
وأكد مؤلف الكتاب الدكتور مغاوري، أن المؤرخ ابن تغرى بردى: (۸۱۲- ٨٧٤هـ / ١٤٠٩-١٤٦٩م) يُعد واحدًا من أهم مؤرخى مدرسة التاريخ المصرى؛ فقد عاصر ستة عشر سلطانا من سلاطين المماليك الجراكسة، واستطاع أن ينقل لنا صورة دقيقة عن حياة المماليك ونزاعاتهم مستفيدا في ذلك من درجة القرابة والمصاهرة التى كانت تربطه بالبعض منهم، وبخاصة أن والده كان أميرًا كبيرًا فى تلك الفترة؛ فاستطاع ابن تغرى بردى أن ينقل لنا أحداثا أوردها بعين الشاهد، مما أضفى قيمة علمية كبيرة إلى كتاباته.