«العَقلُ الذي نُؤرِّخُ لَه في هذِهِ الصَّفَحات، ونُحاوِلُ التَّرجَمةَ لمَراحِلِ تَطوُّرِه، لَيسَ هوَ العَقلَ بمَعناه العام، بَل هُوَ العَقلُ بمَعناهُ المَنطِقيِّ المَحدُودِ فِيما يُسمَّى بالأَفْكار.»
زكي نجيب محمود.. قصة عقل
يعد كتاب "قصة عقل" للمفكر الكبير زكي نجيب محمود استكمالا لكتابه السابق "قصة نفس"، وذلك ضمن سيرته الذاتية التي كتبها بيديه.
وإذا كان الأخير قد تناول السيرة الذاتية للكاتب من زاوية وجدانية وشخصية، فإن هذا العمل يمثل سيرة ذاتية من نوع آخر، حيث يقدم فيه المؤلف رحلة فكره وتطور عقله عبر مراحل حياته، في محاولة لتوثيق المسار العقلي الذي شكل رؤيته للعالم والإنسان والمجتمع.
بين "قصة نفس" و"قصة عقل"
أصدر زكي نجيب محمود في وقت سابق كتاب "قصة نفس"، والذي تناول فيه تفاصيل حياته الشخصية والنفسية، لكنه شعر أن هذا السرد أغفل جانبا مهما من تكوينه، وهو الجانب الفكري.
ومن هنا جاءت فكرة قصة عقل ليكمل الصورة ويمنح القارئ فرصة للتعرف على المسار العقلي الذي شكّل فكره وموقفه من الحياة.
ويتحدث زكي نجيب محمود عن أن مشروع الكتاب قد تأخر مرارا، وهذا بسبب أن أفكاره كانت مبعثرة بين مقالات عديدة على مدار سنوات طويلة، ما استلزم منه جهدا كبيرا في جمعها وترتيبها وصياغتها في كتاب واحد متكامل.
محتوى الكتاب
صدر قصة عقل عام 1993 عن دار الشروق في 264 صفحة، ويضم عشرة فصول رئيسية تمثل محطات مهمة في مسيرة زكي نجيب محمود الفكرية:
1. عقل يلتمس الطريق – يرصد فيه البدايات الأولى لبذور الوعي ونشأة الفكر.
2. مرحلة الانتقال – يتناول رحلته إلى لندن في الأربعينات ودراسته حتى حصوله على الدكتوراه وعودته إلى مصر.
3. دعوة إلى ثقافة العصر – دعوته للأخذ بثقافة الغرب باعتباره صانع حضارة العصر.
4. التجريبية العلمية – رؤيته للوضعية المنطقية كطريق لتجديد الثقافة العربية.
5. دفاع عن العقل – تأكيده أن العقل جانب مشترك بين البشر بينما الوجدان فردي وخاص.
6. نظرية في النقد – موقفه من الأدب والفن وانعكاس منهجه العلمي عليهما.
7. عقل ووجدان معًا – يوضح فيه أن الاحتفاء بالعقل لا يعني إهمال الجانب الوجداني.
8. رحلة في دنيا التراث – رؤيته للتراث كمخزون يمكن الانتقاء منه لبناء حاضر متجدد.
9. أصالة ومعاصرة – تناوله لقضية التوازن بين الماضي والحاضر.
10. مصري يكتب عن مصر – يتأمل في قضايا الوطن وتاريخه وحاضره.
بين العقل والوجدان
يركز زكي نجيب محمود في هذا الكتاب على أهمية التوازن بين العقل والوجدان؛ فهو يرى أن الجانب العقلي مشترك بين الناس جميعا، بينما يظل الوجدان تجربة فردية خاصة بكل إنسان، ومن هنا جاءت دعوته الدائمة إلى التفكير العلمي، دون أن ينفي أهمية المشاعر والقيم الإنسانية.
كما يتعرض في فصول الكتاب المختلفة لعدد من القضايا الكبرى التي شغلت فكره، مثل علاقة الثقافة العربية بالغرب، وقضية الأصالة والمعاصرة، وتجديد النظر إلى التراث، مع التأكيد على أن التراث ليس حملا ثقيلا، بل هو مادة يمكن توظيفها لبناء واقع أكثر تطورا.
وثيقة فكرية هامة
يمثل قصة عقل أكثر من مجرد كتاب سيرة ذاتية؛ فهو وثيقة فكرية ترصد مسار عقل أحد أبرز رواد الفلسفة والفكر في العالم العربي في العصر الحديث، ومن خلاله يمكن للقارئ أن يتتبع كيف تفاعل زكي نجيب محمود مع قضايا مجتمعه وعصره، وكيف سعى إلى إرساء خطاب عقلاني يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويوازن بين التراث ومتطلبات الحاضر.