رواية "جرثومة قردود" للأديب السوداني المبدع إبراهيم سليمان، ليست مجرد عمل سردي تقليدي، بل هي ملحمة سردية حداثية متجاوزة، تحفر عميقًا في الجرح السوداني المتقيّح، خاصة في إقليم دارفور، عبر تشريح بلاغي نفسي لجذور الحرب وعوارضها ومآلاتها.
وتأتي الرواية محملة بلغة مجازية حارقة، تستبطن الواقع وتعيد إنتاجه عبر صور كاريكاتورية جارحة، مشبعة بالسخرية السوداء والحس التاريخي، فيما تبني شبكة رمزية كثيفة حول "قردود" بوصفه الجرثومة لا البطل، والعدوى لا العلاج.
من الناحية البلاغية، استند إبراهيم سليمان في روايته إلى بنية لغوية باذخة، تقترب أحيانًا من نَفَس الملحمة، وتتفجّر بمجازات مركّبة، حافلة بالاستعارات ذات الطابع القتالي والعسكري:
"يسمح للنجوم أن تتلألأ على كتفيه، ويصّرح للنياشين أن ترفرف على صدره".
هذه العبارة تترجم خيالًا بلاغيًا مسرحيًا، يصوّر "قردود" كتمثال حربيّ ينتمي إلى أيديولوجيا الاستعراض، لا إلى مهام الضبط الأمني. البلاغة هنا أداة فضح، وليست للزينة، إذ تقوم على قلب التوقعات: فالضابط رمز الانضباط، هنا يصبح مروّجًا للجنون.
الراوي يحرّك اللغة مثل مقاتلٍ، لا ككاتب، يَقدح الجملة بالدهشة، ويستخدم التناص الشعبي والقرآني بعين ساخطة، مثل استخدامه:
"في الدواس المفتوح، لا اعتبار لعوّرتني"
وهو مثل شفاهي يتم تطعيمه في النص السردي، ليضفي عليه نكهة محلية صارخة، ويعكس ذهنية اللامبالاة التي تحكم مشهد القتال والهمجية.
يبني كاتبنا إبراهيم سليمان روايته على ثنائية رمزية قوامها: قردود (رمز البطش والخديعة) مقابل التمرد (رمز الثورة المُلتبسة). لكنها لا تكتفي بهذه الثنائية، بل تسائلها، وتظهر تداخلها المَرَضي: فالتمرد نفسه ينشطر ويعيد إنتاج نفس القيم القردودية: حب السلاح، الغنيمة، والانتصار على حساب التعليم والوعي. بل تنشأ "جرثومة قردود المتمردة" كطفرٍ جيني من الأصل ذاته.
السرد غير خطيّ في عمومه، يتراوح بين السرد الكلاسيكي والاستبطان الداخلي، أحيانًا، وبتناوب صوتي بين شخصيات مركزية مثل سيف الدين وسلوى وعَرَفة. واللافت أن الرواية توظف البناء الدائري بطريقة فنية، إذ تبدأ بصرخة الولادة وتختتم بصرخات النزوح والانهيار، مع بقاء سؤال "الثأر" معلقًا، كجرثومة لا تُشفى.
الشخصيات في الرواية نماذجية بقدر ما هي واقعية. "سيف الدين" ليس بطلًا تراجيديًا بقدر ما هو أداة اختراق في نسيج الوطن المتشظي، هو مشروع مقاومة فاشلة بسبب تسرّب العدوى إلى دمه مبكرًا، واختياره الخاطئ لطريق السلاح بدل الوعي. بينما "سلوى" تمثل الجانب المقموع المهان الذي نهض من بين الركام لا بالسلاح بل بالإعلام والعمل الإنساني، ومع ذلك لا تُكافأ بل تُطارد وتُلعن.
الرواية تنبني على محرك نفسي خفي: "الثأر"، لكنه ثأر مأزوم، مشوّش المصدر والغاية، يتحول إلى "عقيدة" وليس إلى فعل عدالة. من اللحظة الأولى، يُحمَّل سيف الدين ميراثًا نفسيًا لا يُطاق، في مشهد ولادة ميتافيزيقي أشبه بولادة المهدي، وسط "فراش عزاء" يعجّ بالرجال الحائرين الذين سلّموه الراية دون أن يخبروه أين العدو.
"كلّما زاد التعويل عليه، للأخذ بثأر أبيه، إزداد الصبيّ نحيبا، من ثقل التركة وعظم المسئولية".
الطفل يولد كضحية لمخطط غير معلن، يتحوّل تدريجيًا إلى منفّذ غامض لثأر غامض ضد "شبح" لا يُرى، فيتشظى نفسيًا ويهرب إلى العسكر، ويطلب القوة في البندقية بدل المنطق.
من زاوية نفسية فرويدية، فإن "جرثومة قردود" ليست سوى عقدة أبوية مشوهة، حيث لم يُعطَ الابن فرصة تفكيك موت الأب نفسيًا، بل سُجّل ذلك كـ "أمر عمليات". لهذا يُعاد تمثيل الجريمة في كل فصل، عبر حروب عبثية تمارس طقوس القتل دون فهم.
سلوى على الضفة الأخرى، تقود خطًّا نفسيًا مضادًا؛ تتعرض لمحاولات اغتصاب جسدي ونفسي، لكنها لا تنهار، بل تعيد تشكيل الذات عبر اللغة والبراتيل والعمل الإنساني. إنها تمثل الأنا الأعلى الأخلاقي مقابل الأنا السفلي (سيف الدين). بل تذهب الرواية أبعد من ذلك، لتقترح أن النجاة من الجرثومة لا يكون إلا عبر مناعة عقلية نسائية تتشكل من المقاومة الصامتة والفعل الرمزي، لا من عضلات الذكور وميلهم إلى الجندية.
"جرثومة قردود" رواية متفرّدة في بناء لغتها وجهازها الرمزي، متخمة بالأسى، متجاوزة للسرد التقليدي، ومتورطة عمدًا في مساءلة كل بطولات الحرب وثنائياتها. هي رواية ضد الحرب في لبوس سرد الحرب. ضد السلاح.
إنها واحدة من الروايات القليلة التي تحوّل الجندي إلى مريض نفسي، والمعلّمة إلى مقاومة، والمرأة المغتصبة إلى فاعلة في الشأن العام، دون أن تسقط في فخّ الخطابية. رائعة سليمان الروائية، مكلومة، لكنها واعية؛ سوداوية، لكنها مستبصرة.
وحدها "اللغة" في هذه الرواية كانت مخلصة لنفسها؛ قاتلت حتى النهاية، كما قاتلت "عَرَفة" بسواد نظارتها، وسلوى بفن البراتيل، وسيف الدين بطفولة ضائعة لم تكتمل.