حلقات من كتاب عبد الله السناوى.. «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز»: هل مات عبدالناصر مسمومًا؟ «2-10» - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 7:11 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

يصدر عن دار الشروق قريبا..

حلقات من كتاب عبد الله السناوى.. «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز»: هل مات عبدالناصر مسمومًا؟ «2-10»

هل مات عبدالناصر مسموما؟
هل مات عبدالناصر مسموما؟

نشر في: السبت 18 فبراير 2017 - 10:13 ص | آخر تحديث: السبت 18 فبراير 2017 - 10:14 ص

- التسجيلات كشفت مناقشات بين «جولدا مائير» و«ديان» و«إيجال ألون» و«ياريف» عن أن بقاء إسرائيل رهن بالقضاء على ناصر.. وأنه يجب الوصول إليه بالسم
- مبارك قال إن أنيس منصور أخبره بأن عبدالناصر كان «حجر».. فرد «هيكل»: «أنت الآن تجلس على مقعد ناصر فلا تسمح لأحد فى حضورك أن يتحدث عنه بهذه الطريقة»
- اقترب من «السادات« وساعده فى الوصول إلى السلطة قبل أن تتفرق بهما الطرق ويجد نفسه داخل زنزانة
كانت الصدمة صاعقة.. مات «جمال عبدالناصر»
مات فى الثانية والخمسين من عمره فى ذروة الصراع على المنطقة، ومصر تتأهب لتحرير أراضيها المحتلة بقوة السلاح بعد أن تمكنت بتضحيات هائلة من إعادة بناء قواتها المسلحة بعد الهزيمة المروعة التى تلقتها فى (٥) يونيو (١٩٦٧).
هل مات «عبدالناصر» مسموما؟
تواترت روايات وقصص، ثبت أنها لم تكن صحيحة، ولا تستند إلى أساس يعتد به، حتى تكشفت وثائق جديدة أعادت طرح السؤال بصورة أكثر جدية وخطورة.
فالكلام عن ضرورة الوصول إلى «ناصر» ـ هذه المرة ـ استند إلى تسجيلات وتقارير مؤكدة.
وكان هو الرجل الذى تولى الكشف عن هذه التسجيلات والتقارير، بعضها للمخابرات العامة المصرية، وبعضها الآخر وثائق أمريكية لم يكن الاطلاع عليها متاحا من قبل.
أشار إلى تلك الوثائق فى معرض حديثه التليفزيونى المسهب عن «الطريق إلى أكتوبر.. فى صحبة جمال عبدالناصر».
أزاح الستار فى سبتمبر (٢٠١٠) عن تسجيلات صوتية حصلت عليها المخابرات من داخل السفارة الأمريكية بالقاهرة فى عملية أطلق عليها «الدكتور عصفور».
حركة العصافير، التى تتناقل بين الأشجار الشاهقة، أوحت باسم العملية والتسجيلات احتوت كنزا معلوماتيا احتاجته مصر بشدة فى ذلك الوقت.
سألته إن كان ممكنا أن أطل معه على النصوص الكاملة لتلك التسجيلات؟
قال: «أنت صحفى وسوف تنشر ما تجده من أسرار على درجة عالية من الخطورة، وبعضها لشخصيات ما زالت موجودة ولها دور».
وقد راحت تلك التسجيلات ضمن ما راح فى حرائق «برقاش».
فى عملية «الدكتور عصفور» تمكن المصريون من زرع ميكروفونات حديثة فى مدخل السفارة وصالونها وغرفة الطعام والبهو الأعلى فى مبناها، التى تدور فيها جميعا حوارات طوال الوقت.
فى التسجيلات بدت فكرة الوصول إلى «عبدالناصر»، بالسم أو بأية وسيلة أخرى، الأخطر على الإطلاق.
استدعت المعلومات فائقة الخطورة أن يذهب رئيس المخابرات المصرية فى ذلك الوقت «أمين هويدى» على وجه العجل إلى منشية البكرى.
استمع «عبدالناصر» إلى ما احتواه التسجيل من توجه للوصول إليه والتخلص منه، وكتب نصه على ورقة أمامه.
انطوى التسجيل على حوار بين السفير الأمريكى «دونالد بيرجس» والوزير المفوض فى السفارة الأمريكية بتل أبيب ومساعدته تبادلوا فيه ما توصل إليه قبل أيام اجتماع ضم «جولدا مائير» و«موشى ديان» و«إيجال ألون» و«ياريف» من قيادات الدولة العبرية من أن «بقاء إسرائيل رهن بالقضاء على ناصر.. وأنه يجب الوصول إليه بالسم، أو بالمرض».
بذات الوقت كان هناك تقرير للمخابرات المصرية من روما نقل كلاما منسوبا لـ«على أمين» من أنه سوف يجرى التخلص من «عبدالناصر» فى هذا العام (١٩٧٠).
كشف «هيكل» عن وثائق خطيرة أخرى لاستهداف حياة «ناصر».
ترجم بنفسه فقرات منها، وعرض صورها بالإنجليزية على الشاشة.
وفق نصوص ما هو مسجل فإن السبب الإسرائيلى المباشر لاستهداف حياة «عبدالناصر» هو خشية قياداتها من أن يفضى أى إنجاز عسكرى للقوات المصرية فى أية مواجهات متوقعة إلى مد جديد لحركة التحرر الوطنى فى العالم العربى لا تقدر على صده.
هل مات «عبدالناصر» مسمومًا؟
سجله الطبى معروف ومنشور، فهو كان يشكو منذ أوائل عام (١٩٦٨) من آلام فى ساقه اليمنى إثر ضعف فى الدورة الدموية، وهى إحدى المضاعفات المعروفة للسكر.. وفى سبتمبر (١٩٦٩) أصيب بالأزمة القلبية الأولى إثر إغارة إسرائيلية على منطقة الزعفرانة قتل فيها خمسة جنود وبعض المدنيين المصريين.. وأثبت الفحص الإكلينيكى ورسومات القلب المتكررة تعرض الرئيس لجلطة بالشريان التاجى.. وعندما نصحه طبيبه الدكتور «منصور فايز» بالراحة.. رد عليه: «يعنى إيه راحة؟».
الاعتقاد الراجح أن الرئيس توفى بصورة طبيعية فى أزمة القلب الثانية بعد عام واحد من الأولى، ولكن هناك شكوك وظنون لا يمكن تجاهلها، أو غض الطرف عنها، فى أنهم تمكنوا من الوصول إليه.
سألته: «هل تعتقد أن عبدالناصر مات مسموما؟»
قال: «ليس عندى يقين، والجزم فى مثل هذه الأحوال خطأ فادح، الوثائق تقول إنهم كانوا يريدون الوصول إليه بالسم، ولكن ذلك لا يعنى بالضرورة أنهم نالوا منه فعلا».
فى حالة عدم اليقين لم يستطع أن يتجاهل إشارات خطرة ولها مغزى.
فقد رحل «عبدالناصر» بعد عشرة شهور من ذلك اليوم الذى استمع فيه لما يرتب لإنهاء حياته، ووضع نص ما استمع إليه على ورقة أمامه.
«ظللت أفكر فى الورقة طوال الوقت، فى غرفة نومه بعد أن رحل، وفى جنازته التى لم أتحمل استكمالها».
«هل وصلوا إليه؟.. لا أجزم بشىء فلا يوجد دليل قطعى».
وسط الإشارات الخطرة تذكر واقعة جرت فى الجناح الذى كان يقيم فيه الرئيس بفندق «هيلتون النيل» والعالم العربى ينتظر ما تسفر عنه القمة العربية الطارئة، التى عقدت لوقف حمامات الدم فى عَمان فيما عرف بـ«أيلول الأسود».
احتد «عبدالناصر» على رئيس منظمة التحرير الفلسطينية «ياسر عرفات»، فى حضور «هيكل» و«السادات» قائلا: «إما أن ننزل متفقين، أو أعلن فشل مؤتمر القمة فى التوصل إلى حل».
لم يكن مستعدا لأى فشل، أو مماطلة فى التوصل إلى حل ينهى المأساة.
عند ذلك اقترح «السادات» أن يعد بنفسه فنجانا من القهوة للرئيس.
دخل إلى المطبخ وصرف العامل المختص واسمه «محمد داود».
سألته: «هل يمكن أن يكون السادات فعلها؟».
أجاب: «والله لا أعرف».
ـ أين الحقيقة؟
قال: «هناك أسباب أخلاقية وسياسية وعملية تمنع تورطه فى مثل هذا العمل.. لكنى رويت ما رأيت».
(١)
فى شتاء عام (١٩٥٣) خطر لرئيس تحرير «آخر ساعة»، وهو يقارب الثلاثين من عمره، إجراء «حوار فى العمق» مع رجل يوليو القوى، وهو فى الخامسة والثلاثين.
كان معتقدا أنه زعيم الثورة وقائدها الحقيقى، وأراد ـ بالحوار المعمق ـ أن يكشف عن شخصيته وأفكاره وتجاربه فى «فلسطين» و«السودان» و«منقباد»، وخلفياته الاجتماعية.
وافق «عبدالناصر» على ما فكر فيه ودعاه إلى منزله بشارع الجلالى فى حى الوايلى، وكان منزلا شديد التواضع.
«فى اللقاء تلاقت أفكار وتصورات».
فى هذا اليوم الفارق فى العلاقة بين الرجلين، وبينما الحوار يستفيض ويسهب فى الوقائع والتفاصيل.. متطرقا إلى حرب فلسطين، توقف «عبدالناصر» فجأة عن الكلام، وطلب من ضيفه الانتظار قليلا، غادر حجرة الاستقبال ليعود بعد قليل ومعه صور ومتعلقات شخصية ورزمة خطابات، بعضها تلقاها بعد العودة من الحرب من أهالى الفالوجة، وبعضها من زوجته تحية ووالده وعمه، وبرطمان مملوء برمل المنطقة التى حارب فيها، معتقدا أنه سوف يعود إليها ليقاتل مرة أخرى.
غير أن أهم ما أحضره دفتر مذكرات شخصية على غلافه الخارجى بقعة من دمه.
سأله «هيكل»: «هل هذه إصابة حرب..؟».
أجاب: «لا».. وأخذ يروى قصة بقعة الدم على غلاف دفتر اليوميات، فأثناء كتابته اليومية مسجلا وقائع القتال وانتقاداته ومشاعره، حدث أن قصفت القوات اليهودية مقر رئاسة الكتيبة المصرية السادسة، وأدى الارتجاج الشديد، الذى نتج عن القصف، إلى سقوط لمبة الجاز، خشى أن يؤدى سقوطها على أرضية الغرفة إلى حريق، حاول أن يمسك بها دون جدوى، فأدى ذلك إلى جرح فى يده، وسقطت قطرات من دمه على الدفتر.
بدت القصة الإنسانية البسيطة التى رواها «عبدالناصر» مثيرة للالتفات من الصحفى الشاب، الذى غطى العمليات العسكرية فى فلسطين، وتعرف على أعداد كبيرة من أبطال هذه الحرب، ويعرف ـ باليقين ـ أن البطولات فيها بلا حصر، وأنها حقيقية، ولكنه يعرف ـ باليقين أيضا ـ أن عددا آخر ادعوا الإصابات فيها، وحصلوا على أنواط ونياشين. ثم إنه يعرف بالتفاصيل قصة الصمود الأسطورى للكتيبة السادسة فى حصار الفالوجة، وكان «عبدالناصر» أحد أبطالها، وأنه دخل المستشفى الميدانى أكثر من مرة بإصابات خطرة أحدها بالقرب من قلبه، وقاد عمليات كاد يستشهد فيها.
بدا أمام محاوره واثقا من قدرته على حسم صراع السلطة، وتجاهل الحديث فى هذا الموضوع، وأخذ يتحدث عن «فلسفة الثورة»، وكانت المفاوضات مع الإنجليز للجلاء عن مصر على رأس مشاغله.
كان يرغب فى تأسيس فكرة جوهرية لثورة يوليو ومستقبلها، ووجد فيما كتبه «هيكل» تعبيرا حقيقيا عنه، فأفسح المجال لحوار مفتوح بغير تكلف رسمى.. وفى بيته، وأن يسأل كما يشاء.
فى تلك اللحظة تجسرت العلاقة بين الرجلين وذاب الجليد، فقبلها كان «إحسان عبدالقدوس»، و«أحمد أبو الفتح»، و«حسين فهمي»، و«حلمى سلام» هم الأقرب إلى يوليو ورجالها.
رغم أن «هيكل» التقى «عبدالناصر» قبل الثورة وبعدها عدة مرات، بعضها مثير، إلا أنه لم يكن الأقرب.. حتى هذا اليوم من مطلع عام (١٩٥٣).
كان رأى «عبدالناصر» أن اليوميات، التى كتبها أثناء حرب فلسطين، قد تساعد على استدعاء الوقائع وإدارة الحوار بصورة أفضل، وأودعها أمانة عند «هيكل»، الذى استند إلى الجو العام لليوميات فى اكتشاف ملامح شخصية رجل يوليو القوى.
كانت تلك الأحاديث، مضافا إليها يومياته فى حرب فلسطين، هى الأساس الذى صيغت عليه «فلسفة الثورة».
بعد نحو سنتين استند «هيكل» إلى ذات اليوميات فى كتابة «مذكرات الرئيس عن حرب فلسطين»، لكن الأصول ـ ذاتها ـ لم يطلع عليها أحد حتى قمت بنشرها مطلع عام (٢٠٠٨) فى كتاب أهديته إليه «أستاذا ومعلما وأبا».
(٢)
كان الحوار طويلا ومثيرا بين الصحفى الكبير، الذى خرج للتو من المعتقل، والرئيس الجديد، الذى تولى مهامه عقب اغتيال سلفه «أنور السادات» فى حادث المنصة خريف عام (١٩٨١).
كل منهما أراد استكشاف الآخر، وكانت النتيجة قطيعة مبكرة.
لم يلتقيا مرة أخرى على مدى ثلاثين سنة.
فى الحوار جرى التطرق إلى طبيعة العلاقة التى جمعت «محمد حسنين هيكل» مع الرئيسين «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات».
قال «حسنى مبارك»: «كنت أعتقد طوال الوقت من كلام أنور السادات أنك رجل جمال عبدالناصر، حتى أخبرنى أنيس منصور أن عبدالناصر كان رجلك».
رد «هيكل»: «أرجو يا سيادة الرئيس، وأنت الآن تجلس على مقعد جمال عبدالناصر، ألا تسمح لأحد فى حضورك أن يتحدث عنه بهذه الطريقة».
هكذا كانت القصة بحروفها ومغزاها كما نشرتها مطلع القرن الجديد.
من جانب تاريخى كان الرد حاسما حتى لا تختلط الأوهام بالحقائق، كما أن الكلام لا يليق بحجم دور زعيم يوليو فى التاريخ الحديث، ولا كان الصمت عليه جائزا وإلا فإنه إقرار بالفِرية.
ومن جانب إنسانى فإن الألفاظ التى جرت على لسان الرئيس الجديد بدت على درجة غير متصورة من السوقية، حيث استخدم تعبيرا آخر فى وصف العلاقة بين «عبدالناصر» و«هيكل» بحروف قريبة من «رجلك»، فقد كانت «على حجرك».
لم يكن لذلك أى ظل من حقيقة لا فى التاريخ ولا فى رأيه.
كان يرى «عبدالناصر»: «ثائرا عظيما وإنسانا بديعا».
«لقد رأيناه رؤية عين لا بخيال رواة السير الشعبية».
«عشنا تجربته ولم نستمع إليها كسيرة الظاهر بيبرس».
فى الجانب الآخر من تجربته السياسية ثمة شيء عميق ربطه بـ«عبدالناصر» يتجاوز كل ما هو معتاد بين رئيس وصحفى إلى شراكة فكر أقرب إلى «التوأمة» ـ بتعبير مؤسس صوت العرب «أحمد سعيد».
سألته: «هل أعدت اكتشاف جمال عبدالناصر من جديد بعد كل ما جرى فى مصر وعالمها العربى من تحولات وانقلابات على خياراته الرئيسية؟».
قال: «لا، فقد كنت أعرف قدر دوره، ما جرى بعده يؤكد ويثبت أنه رجل استثنائى، وما طالعته من وثائق غربية لم تكن متاحة فى أيام يوليو تؤكد وتثبت ما تعرضت له تجربته من مؤامرات».
«تعرف أن التاريخ ليس مؤامرة ولكن المؤامرة موجودة فيه».
«وتعرف أن بعض الرجال يتحولون إلى عقد مستحكمة تقلق وتطارد من يخلفونهم».
وقد شاءت أقداره أن يعاصر عهودا متوالية، وأن يكون طرفا رئيسيا فى صناعة القرار، أو الجدل من حوله، ولعله ـ دون أن يقصد أو يطلب ـ تحوّل إلى عقدة مستحكمة ثانية بتصور أنه «مخرج ثورة ٢٣ يوليو» ـ والتعبير للرئيس «السادات».
لم تكن ثورة يوليو شريطا سينمائيا يبحث عمن يكتب مشاهده ويخرجها، فـ«هذا هزل فى رؤية التاريخ غير جدير بأى اعتبار».
اقترب من «عبدالناصر» من قلبه وفكره كما لم يقترب أحد آخر، كان الوحيد الذى يمكنه دخول غرفة نوم الرئيس بالطابق الثانى فى بيت منشية البكرى، وكان «عبدالناصر» يقول دائما «إنه الوحيد الذى يفهمنى بسرعة».
واقترب من «السادات»، ساعده فى الوصول إلى السلطة وحسم الصراع عليها، قبل أن تفترق الطرق ويجد نفسه فى بداية الثمانينيات داخل زنزانة معتقل ضمت نحو ألف وخمسمائة شخصية معارضة من جميع أطياف السياسة المصرية.
لماذا اقترب من «عبدالناصر» إلى درجة التماهى؟
ولماذا ابتعد عن «السادات» إلى درجة الصدام؟
سؤالان فى التاريخ إجابتهما فى السياسات والتوجهات والخيارات الرئيسية.
لمرة نادرة ألمح فى حوار صحفى إلى أسباب إلحاحه فى معارضة «السادات»: «هو ظنى بأننى قمت بدور أساسى فى مجىء السادات رئيسا بعد رحيل عبدالناصر، وبدور كذلك فى تأييده بظروف أحاطت بمصر أيامها» ـ قاصدا أحداث (١٥) مايو التى تردد أنه مهندسها.
اختلف ـ أولا ـ على الإدارة السياسية لحرب أكتوبر.
واختلف ـ ثانيا ـ على التوجهات الاجتماعية الجديدة.
وقد كانت هناك صلة عند الجذور بين السلام مع إسرائيل والانفتاح الاقتصادى بالطريقة التى جرى بها.
«حاول السادات أن ينشئ طبقة جديدة تساند فكرة السلام».
«كان سؤال هنرى كيسنجر: أين الطبقة الاجتماعية التى يمكن أن تسند أى تحول استراتيجى؟».
«وقد أسفر الانقلاب الاجتماعى عن خلق طبقة أكثر تدينا وأقل أخلاقا».
«فى سنة ١٩٧٥ كنت أمام وضع اجتماعى يتغير دون أن يقول لنا أحد من أين جاءت القطط السمان، ولا كيف حصلت على ثرواتها؟».
كان ذلك هو المشروع النقيض لما دعا إليه «عبدالناصر»، وشارك هو فى صناعة حلمه.
فى الجانب الآخر من تجربة يوليو التزامات لم يتخل عنها تحت أى ظرف تجاه ما يعتقده من أفكار، فالوفاء للأفكار قبل الرجال.
على الجانب الأيمن من غرفة مكتبه تمثال صغير، ربما لنحات يوغوسلافى، نصف الوجه لـ«عبدالناصر» والنصف الآخر لـ«هيكل»، كأنهما واحد.
شيء من ذلك التصور الفنى هو صلب رؤيته لدوره فى تجربة يوليو.
هو ابن الحرب العالمية الثانية، التى كانت الخلفية والصورة العامة، نشأ فيها جيله وبدأ حياته العملية، وكان أبرز أبناء هذا الجيل رجل ولد قبله بخمس سنوات فى عام (١٩١٨).
ظلت فى مخيلته حتى لحظاته الأخيرة قصة ذلك المساء من عام (١٩٥٢)، قبل ثورة يوليو بأيام، عندما زاره البكباشى «جمال عبدالناصر»، ومعه الصاغ «عبدالحكيم عامر» بالمنزل الذى كان يقطنه بشارع «شجرة الدر» فى حى «الزمالك».
أرسل ساعيه الخاص «عبدالرسول» لشراء عشاء خفيف للضيفين عبارة عن علب من «السيمون فيميه».
«قال عبدالناصر: أنت طلعت ارستقراطى؟».
«أجبته: أبدا أنا من أسرة بسيطة، وما صنعته من مستوى حياة بعملى وحده».
«كان عبدالناصر زاهدا فى متع الحياة، لا يأكل وهو رئيس ما لم يكن يأكله وهو ضابط، ولا يلبس ما لم يلبسه من قبل السلطة، عازفا عن مغريات النساء والمال».
«السادات اقترح ذات مرة على عبدالناصر أن يجرب طباخا آخر يعرف فى فنون الطهى الحديثة، بعد يومين أو ثلاثة أعاد الطباخ، فلم يكن يأكل سوى الأرز والخضار، كأى مواطن عادى».
عندما توفى «عبدالرسول» بكاه من القلب.
بدا مكتبه كمأتم صامت، لفتنى بعض العاملين قبل أن أدخل إليه أنه فى حالة صعبة لم يروه عليها من قبل.
رأيت فى عينيه بقايا دموع، لم يحاول أن يكتم مشاعره كما تعود، «عبدالرسول» قضية أخرى فهو ظله المرافق منذ بواكير الشباب.
(٣)
تجربة «عبدالناصر» عنده لم تكن «دروشة» فى الماضى بقدر ما كانت إلهاما للمستقبل، فكل ما له قيمة يبقى، وأية أخطاء شابتها لا تسحب منها جدارتها حين غيّر جمالها وأحقيتها حين واجهت.
«عبدالناصر هو الحقيقة الأساسية فى التاريخ المصرى الحديث».
كان يرى أن «هناك ناصريين ولا توجد ناصرية».
ربما أراد نفى الصفة الأيديولوجية، التى ترتبط بالضرورة مع مثل تلك الانتماءات، خشية الجمود بعدوى الصور النمطية، وربما أراد أن يؤكد اتساع رؤيته لمجمل الحركة السياسية العامة، دون انحياز إلى فريق أو آخر، غير أن أحدا لم يقتنع بالعمق، فهو شريك بالتجربة والكاتب الرئيسى لوثائقها.
«لم أصدق يوما أن هيكل ليس ناصريا، باعتقاد أن ما يكتبه من رؤى وأفكار تنتسب بصورة مباشرة لمشروع جمال عبدالناصر، الذى هو ـ كما يرى ـ المشروع القومى المتجدد.
قال هيكل: أنا ناصرى بهذا المعنى وحده.
قلت له على الفور: وأنا ناصرى بهذا المعنى وحده.
نشر ذلك فى يناير (٢٠٠٤).
كانت قضيته المشروع باتساع حركة فعله، لا الأيديولوجيا بانغلاقها على مقولاتها.
لم يكن معنيا بالتصنيف الأيديولوجى بقدر ما كان متنبها إذا ما كان هناك فيما يسمع ويقرأ ويتابع شيئا له قيمة أو فكرة لها أثر.
سألته: «كيف تصنف نفسك فكريا وسياسيا؟».
أجاب: «يسار وسط».
قلت: «لماذا يعتقد كثيرون أنك أقرب إلى اليمين؟».
قال: «إنهم يظنون أن تجربتى فى أخبار اليوم أثرت على تكوينى الفكرى والسياسى».
«كيف أكون يمينيا وأنا من صاغ فلسفة الثورة والميثاق الوطنى وبيان ٣٠ مارس والخطب التأسيسية للتجربة الاشتراكية، التى أعلن فيها عبدالناصر التأميمات».
«أنت تعرف أننى لا أكتب شيئا لا أقتنع به».
«ثم لا تنس أننى أول من كتبت عن زوار الفجر واستخدمت مصطلحات مراكز القوى والدولة داخل الدولة ودولة المخابرات لإدانة أسلوب فى الحكم بعد نكسة يونيو، وتلك كلها اختيارات فكرية وسياسية أؤمن بها».
«ثم إن انتمائى العروبى هو حصاد تجربة جيل بأكمله شاهد وتأثر بحرب فلسطين، واكتشف هويته تحت وهج النيران وصدمة النكبة».
ما إن بدأت علاقته تتوطد مع «جمال عبدالناصر» حتى فرض على نفسه، وعلى حياته العامة والخاصة ستارا كثيفا من الصمت والكتمان.
قال لى: «ما كان يجرى بينى وبين الرئيس ملكه وحده، وما يصل إليه من قرارات بعد حوارات معى ومع غيرى، ملكه وحده، يعلنها فى الوقت الذى يشاء وبالطريقة التى يراها مناسبة، لا أنقل عنه ولا أسمح لأحد بأن ينقل عنى».
سألته: «ما تفسيرك أن بعض الذين عاصروا حقبة الستينيات قالوا لى إن ما أنشره عنك من قصص سياسية تشوبها روح إنسانية ظاهرة تختلف مع صورتك التى يعرفونها؟».
قال: «عندهم حق.. فقد كنت أعمل وأحيا من خلف ستائر كثيفة».
فى فيض ذكرياته عن «عبدالناصر» واستهداف مشروعه ظل السؤال يلح عليه: هل وصلوا إليه بالسم؟ ولم تكن هناك إجابة حاسمة.

اقرأ أيضا:
حلقات من كتاب عبد الله السناوى.. «أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز»: وديعة هيكل «1 - 10»



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك