مصطفى الفقى يكتب عن: محنة النهر - بوابة الشروق
الجمعة 21 نوفمبر 2025 5:10 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

مصطفى الفقى يكتب عن: محنة النهر


نشر في: الإثنين 24 أكتوبر 2022 - 9:18 م | آخر تحديث: الإثنين 24 أكتوبر 2022 - 9:19 م

أصبحت واحدة من أكبر الأزمات التى تهدد استقرار المنطقة وتدق مسمارا خبيثا فى البناء القومى الأفريقى.
وصلت مشكلة سد النهضة الإثيوبى إلى درجة من التعقيد الواضح خلال الأعوام الأخيرة، بما أدى إلى حالة من التأزم والتوتر مع جريان مياه النهر.
وقد حاولت مصر والسودان التصرف بصبر وهدوء فى إطار الشرعية الدولية سالكين الطرق الدبلوماسية والقانونية لتطويق أبعاد هذه القضية فى إطار تسوية تحافظ على حقوق كل الأطراف، وتتماشى مع مبادئ القانون الدولى المتصل بحركة الأنهار العابرة للحدود، ويهمنى هنا أن أسجل بشفافية وحياد الاعتبارات التالية:
أولا، إن العلاقات الإثيوبية ــ المصرية كانت دائما محاطة بدرجة من الغموض ولم تبرأ من بعض مظاهر الثقة المفقودة، فأديس أبابا ترى أنها دولة كبيرة من حيث عدد السكان، وأنها تسيطر على منابع النهر فى معظمها، كما أنها تعيش تاريخيا فى ظل أصداء عرش سليمان ومملكة داوود، وهى من أكبر دول القارة عددا فى السكان وأسبقها إلى التحرر من الاستعمار الأجنبى.
ولقد وعت مصر هذه الحقيقة مبكرا، ففى العصر الملكى حرصت أسرة محمد على على أن تكون لمصر يد طولى تمتد إلى منابع النيل، كما استخدمت مصر بعض أدواتها الناعمة، وفى مقدمها التقارب الدينى بين الكنيستين المصرية والإثيوبية، فضلا عن دور مصر فى علاقة دينية مع مسلمى الحبشة، إلى جانب الهجرات الوافدة مع مياه النيل من الجنوب إلى الشمال.
ويكفى أن نتذكر أن المؤرخ المصرى الشهير عبدالرحمن الجبرتى ينتمى إلى عائلة من إقليم جبرت فى إمبراطورية الحبشة، التى انتهت على يد مانجستو ورفاقه مع سقوط حكم الإمبراطور هيلاسلاسى فى بداية الربع الأخير من القرن العشرين.
وبعدها تفككت الأواصر القوية التى كانت تربط بين طرفى الكنيسة الأرثوذكسية فى مصر والحبشة وظهرت بوادر التغير على نحو ظاهر، لأن مصر كانت تروض الحكم الإمبراطورى وتتقارب مع هيلاسلاسى على أرض أفريقية مشتركة.
وبادر عبدالناصر بالمشاركة فى اختيار العاصمة الإثيوبية أديس أبابا مقرا لمنظمة الوحدة الأفريقية منذ عام 1963 وحرص الرئيس المصرى على إعطاء الإمبراطور الإثيوبى معاملة خاصة واختاره ضيف شرف عند وضع حجر الأساس للكاتدرائية المرقسية الجديدة فى القاهرة عام 1965 بحضور الحبر الجليل الأنبا كيرلس السادس بابا الأقباط فى ذلك الوقت.
ثانيا، يجب أن نعترف بشجاعة أن مصر قد أضاعت فرصا للحصول على اتفاق مكتوب يعد وثيقة تعتمد عليها أمام القضاء الدولى لإثبات حقها فى مياه نهر النيل، وفى ظنى أن مصر لم تتصرف بحكمة وكياسة عند توقيع اتفاق «عنتيبى»، وجرى اتخاذ الأمر بشىء من الاستخفاف الذى أوصلنا بشكل أو بآخر إلى ما نحن عليه.
إضافة إلى غياب الوعى القومى بالإطار المحتمل لقضية مياه النهر عندما وقع الأطراف الثلاثة على الاتفاق الإطارى 2015 فى محاولة لتدارك النتائج المحتملة للمشكلة التى بدت بوادرها خصوصا بعد زيارة الوفد الشعبى المصرى للعاصمة الإثيوبية فى أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثانى) 2011، الذى تصرف بعض أعضائه بأسلوب اعتذارى أدى إلى تضخم الذات الإثيوبية بشكل ملحوظ، خصوصا عندما وصل آبى أحمد إلى موقع قيادة الدولة فى أديس أبابا، الذى أظهر من المراوغة والتشدد ما أصبح واضحا أمام الجميع، على رغم كل الفرص التى منحتها مصر للوصول إلى تسوية عادلة تحفظ حقوق الدولة المصرية فى مياه النهر، الذى يتدفق على أرضها منذ آلاف السنين.
بل وتقدم بعض المسئولين المصريين بأفكار بناءة كان منها ما اقترحه عصام شرف رئيس الوزراء المصرى السابق على ملس زيناوى أثناء زيارته إلى القاهرة عام 2011 قبيل وفاته بأن يكون هناك تفكير إيجابى مشترك يدعو الدولتين أديس أبابا والقاهرة إلى الوصول لدرجة عالية من التعاون بينهما على نحو يسمح بتحقيق فائدة متبادلة من دون أن يكون هناك رابح وخاسر، بل يظل الاثنان رابحين.
من بين تلك الاقتراحات التى تقدم بها شرف، تعبيد طريق برى يصل بين أراضى إثيوبيا وأحد موانئ مصر على البحر الأبيض ولتكن بورسعيد أو دمياط أو الإسكندرية، بخاصة أن إثيوبيا لا تمتلك شاطئا بحريا منذ انفصال إريتريا، حيث تحولت الدولة الإثيوبية إلى دولة مغلقة لا تطل على البحار.
ثالثا، لم يتخذ بعض الأشقاء العرب ما كان متوقعا تجاه الأزمة الإثيوبية المصرية، بل دعم بعضهم حكم آبى أحمد فى إطار العلاقات الثنائية، واستثنى من ذلك النشاط الإيجابى للدبلوماسية السعودية للمحافظة على الحقوق المشروعة فى حصة مصر من مياه النيل.
لقد كتبت شخصيا مقالا افتتاحيا فى إحدى الصحف المصرية بعنوان «العرب وسد النهضة» وكان ذلك عام 2020، ولكن ردود الفعل العربية، على رغم صدق النوايا، كانت هادئة وتكتفى بالدعم اللفظى على رغم وجود الاستثمارات العربية الهائلة التى تملكها بعض الدول العربية لدى الدولة الإثيوبية، خصوصا أننا لم نكن نريد الضغط على أديس أبابا، لكن فقط استخدام المصالح المشتركة بينها وبين بعض الدول العربية الشقيقة لكى تعدل إثيوبيا عن أسلوب التشدد ولتقبل بحل عادل يرضى كل الأطراف.
وعندما ذهبت مصر إلى مجلس الأمن لم تكن النتائج كما نريدها، إذ إن الدول الخمس الكبرى هى دول منابع للأنهار شأنها شأن إثيوبيا وكان من الطبيعى ألا تجاهر تلك الدول بموقف يختلف عن ذلك باستثناء ما جرى فى ظل الإدارة الأمريكية السابقة للرئيس دونالد ترمب، الذى سعى إلى معالجة القضية بين الدولتين الأفريقيتين متعاطفا بدرجة ما مع الموقف المصرى.
إن الوضع الحالى بين القاهرة وأديس أبابا يوصى بشىء واحد، وهو ضرورة خلق شبكة من المنافع المشتركة بين الدولتين فى إطار النهر الخالد الذى عاشت به الدولتان على مر العصور، بحيث يشعر كل طرف أنه قد حقق الحد الأدنى الذى يرضيه من هذا الاتفاق، وليس الطريق طويلا ولا قصيرا، لكنه يحتاج إلى جهد وطنى مصرى سودانى إثيوبى خالص تحقق به تلك الدول مصالحها من دون أن تصادر حقوق الأجيال القادمة من شعوبها.
إن أزمة النهر الخالد الذى كان يجرى بسلام عبر آلاف السنين أصبحت واحدة من أكبر الأزمات المرتبطة بمياه النيل على نحو يهدد استقرار وأمن المنطقة ويدق مسمارا خبيثا فى البناء القومى الأفريقى، بخاصة أن الأشقاء فى القارة السمراء قد حاولوا الوصول إلى تسوية عادلة من طريق وساطة الاتحاد الأفريقى، لكن لم يتمكن الجميع من حلحلة الموقف حتى الآن.
لقد ذهب الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى إلى العاصمة الإثيوبية مؤكدا أمام برلمان الدولة هناك على رغبة مصر فى التعاون الكامل مع دول حوض النهر وفى مقدمتها إثيوبيا بغية الوصول إلى حل يحقق تطلعات شعوب النهر ويكفل حالة من الرضا التى يسعى إليها الجميع وتتطلع الشعوب لبلوغها.
وليس من شك فى أن أزمة السد الإثيوبى هى جزء من إشكالية كبرى ترتبط بمياه الأنهار فى عالمنا المعاصر ويستأثر الشرق الأوسط والقارة الأفريقية بجزء كبير منها، فمياه دجلة والفرات فى غرب آسيا تواجه خلافات واضحة بين تركيا وجيرانها خصوصا بلاد الرافدين التى ارتبطت بهما عبر التاريخ.
وتعانى سوريا أيضا ولبنان والأردن من شح المياه حتى وصل الأمر إلى وادى النيل، حيث مصر التى كانت تزهو دائما بأنها هبة النهر بدأت تدخل هى الأخرى فى مرحلة الشح المائى واضعين فى الاعتبار أن المياه هى الحياة وأن الحرص عليها يفوق الحرص على الأرض ذاتها، ونحن نتطلع جميعا إلى وقت تصبح فيه الأنهار رابطة قوية وعروة وثقى لعلاقات عميقة بين شعوب تشرب من نهر واحد، كما كان الأمر عبر التاريخ الطويل فى كل مناطق العالم التى تشقها أنهار تاريخية من المنبع إلى المصب.

نقلا عن إندبندنت عربية



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك