محمد رمضان يكتب: مِن الإسكندرية إلى روما.. كليوباترا السَّابعة في عيون الآخر - بوابة الشروق
الأربعاء 1 مايو 2024 2:57 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محمد رمضان يكتب: مِن الإسكندرية إلى روما.. كليوباترا السَّابعة في عيون الآخر


نشر في: الجمعة 26 مايو 2023 - 7:37 م | آخر تحديث: الجمعة 26 مايو 2023 - 7:37 م
ــ أساء معظم المؤرخين الرومان واليونان لكليوباترا لكن بعضهم لم يتجاهل مميزاتها العقلية والثقافية وذكاءها ومواهبها وفطنتها
ــ يجب تقديم قصة موضوعية لهذه الملكة الشبيهة بقصص الأساطير من سحر وصراع وعشق وانتحار
ربما لم تنل أى ملكة من ملكات البطالمة هذا القدر من الجدل مثل كليوباترا السابعة، التى خلدت اسمها فى سجل التاريخ، وطبّق صيتها آفاق المشرق والمغرب فى العالمين القديم والحديث، وانبرى المؤرخون والشعراء الذين وضعوها دائمًا فى صورة المرأة الفاتنة، الطموحة صعبة المراس، التى أسرت قلوب أعظم القادة الرومان فى ذلك الوقت يوليوس قيصر وماركوس أنطونيوس. ولكن لسوء الحظ وكعادة التاريخ الذى يكتبه دائمًا المنتصرون، فعهد كليوباترا كُتب من وجهة النظر الرومانية بإيعاز من أغسطس عدوها اللدود، فنكلوا بها حتى بعد موتها، وصارت صورتها التقليدية الراسخة فى الأذهان هى صورة العاهرة التى تجيد فن الهوى؛ فها هو بلوتارخوس فى كتابه المعنون «سيرة أنطونيوس» يتحدث عنها بإطناب، وترك لنا سجلًا كبيرًا عن حياتها وصورها، كالعاشقة الماكرة التى سجنت أنطونيوس فى أحضانها، وحبسته فى دائرة لا يملك الفكاك منها، هى معه أينما حل، فحتى لو تزوج فى روما ألف مرة حتمًا سيعود إلى عشيقته الساحرة التى تشده إليها بخيوط من ذهب كما يقول. وبهذا فقد غلب على سيرة هذه الملكة من قبل أغلب المؤرخين حتى وقت قريب هذا الطابع، مغفلين جوانب كثيرة فى حياتها الشخصية وعلاقتها بالشعب المصرى. وزاد الطين بلة أن هذه السيرة كما كتبها خصوم كليوباترا صادفت هوى عند الكثير من كتاب القصة والشعراء فنقلوا عنهم دون تدقيق وموضوعية.
ولدت كليوباترا بين عامى 70/69 ق.م وحتى الآن لا نستطيع أن نحدد والدتها، وعلى الأرجح أن كليوباترا الخامسة أو السادسة، ولكن ليس هناك دليل قوى يؤكد ذلك. وإذا زعم البعض أن كليوباترا السابعة كانت سوداء معتمدين على مصادر ضعيفة تذكر أنَّها قد ولدت لأمة سوداء من أفريقيا، فكيف يحدث ذلك، فليس هناك من الشواهد الأثرية أو المصادر ما يؤكد ذلك، وكل هذه دعوات عنصرية لها أغراضها الخبيثة وتحمل بين طياتها نزعة مركزية إفريقية، كما أن وصفها بالملكة المصرية فى المؤلفات الرومانية المعاصرة للإمبراطور أغسطس كان الغرض منها التحقير بمصريتها، ولعل أكثر النقاط جاذبية فى شخصيتها هى جمعها بين الثقافتين الإغريقية والمصرية، ولكنها ربطت نفسها بالثقافة المصرية، وقد استقرت تلك الصورة فى الأذهان حتى تعامل معها الناس كأنها حقيقة، وترسخت هويتها بوصفها ملكة مصرية وليست مقدونية يجرى فى عروقها الدم اليونانى.

كانت روما قد ثبتت أقدامها على كل ممالك الشرق الهلنستى، ومنهم بالتأكيد مملكة البطالمة التى حكم ملوكها مصر منذ عام 323ق.م عقب وفاة الإسكندر الأكبر فى بابل، وحاول بطلميوس بن لاجوس مؤسس هذه الأسرة أن يجعلها مملكة قوية يرهبها الجميع فى الداخل والخارج، وتحقق له ما أراد حتى عصر الملك بطلميوس الثالث، الَّذى مثل عصره نهاية لعصر القوة، وبدأت مرحلة الضعف وتولى ملوك ضعاف لم يكونوا على قدر المسئولية، وعمت الخلافات الداخلية. ومع توالى الضعف والانهيار كانت هناك قوة كبيرة تتوسع وتستفحل واستغلت كل هذه الأوضاع وثبتت أقدامها فى مصر، وأصبح الملوك البطالمة كقطع الشطرنج يحركها الساسة الرومان. وعاش المصريون فى عناء كبير وساءت أحوالهم المعيشية، حتى جاءت القشة التى قسمت ظهر البعير عندما تولى العرش الملك بطلميوس الثانى عشر «الزمار» الَّذى مثل صورة هزيلة من ملوك البطالمة الضعاف، ولم تعترف به روما ملكًا على مصر، ولهذا لم يتورع فى أن يلاحق القادة الرومان ويرتمى على أعتابهم من أجل الاعتراف به، بل من أجل عودته إلى عرشه بعد أنْ خرج طريدًا بعد ثورة شعب الإسكندرية عليه، وعاد بدعم من الرومان ودفع الغالى والثمين فى سبيل تحقيق ذلك. وفى النهاية ترك وصية بأن يتولى الشعب الرومانى وقادته تنصيب ابنته كليوباترا السَّابعة صاحبة الثمانية عشرة عامًا، وأخيها بطلميوس الثالث عشر الذى يبلغ من العمر عشر سنوات، عرش مصر.
فى ظل هذه الظروف السيئة جاءت كليوباترا، وهى تعلم جيدًا أنَّها ورثت تركة ثقيلة ومملكة هزيلة، وعليها أن تواجه مصيرها المحتوم، وتحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تخرج بمملكتها إلى بر الأمان. كان لزامًا عليها أن تتقرب من الرومان مثل أسلافها حتى تخرج من محنتها، وخاصة أن أخاها قد سيطر عليه أوصياؤه فانقلب عليها، وآثرت الهرب حتى تستعيد عرشها بعد ذلك، وتنتقم من أخيها وبطانته الفاسدة. وبظهور يوليوس قيصر الذى جاء إلى الإسكندرية متتبعًا أثر غريمه بومبى بعد معركة كبيرة بينهم على زعامة العالم الرومانى عام 48 ق.م، وعندما علمت كليوباترا بقدومه وهى خارج الإسكندرية، فكانت تعرف الشيء الكثير عن قيصر الذى كان يبلغ من العمر نحو اثنتين وخمسين سنة، فقررت أن تأسره بجمالها رغم أن بلوتارخوس يؤكد أنه لم يوجد فى جمال كليوباترا نفسه، وهو شىء لا يبارى. ويرجح أن السر وراء هيمنتها على عقل وقلب قيصر وأنطونيوس من بعده هو جمالها وسحرها وفطنتها، وعادت إلى عرشها بفضل دعم قيصر وقواته. وكما يذكر ديو كاسيوس أن كليوباترا كسبت قضيتها لأنَّه لم توجد فى العالم حجة أقوى من جمالها الفاتن وصوتها العذب. وتطورت علاقتها به حتى أنجبت منه طفلها بطلميوس الخامس عشر «قيصرون»، هذا الطفل الذى كان هو أملها الوحيد ليس فى عودة مجد مملكتها من جديد، بل فى أن تصبح ملكة متوجة على عرش الرومان أنفسهم. واستولت على قلب قيصر، فخشى الرومان أن يحول قيصر جمهوريتهم إلى مملكة هلنستية تتربع على عرشها الملكة الشرقية كليوباترا السابعة. وزاد سخطهم عليها عندما ذهبت إلى روما وأقامت هناك فى قصر على ضفاف نهر التيبر، وشاهدت بعينها موكب نصر يوليوس قيصر الذى كانت فيها أختها الأميرة أرسينوى مكبلة بالقيود بسبب إخلاصها ووطنيتها، وقد قارنوا بينها وبين أختها كليوباترا الماجنة ــ على حد وصفهم ــ التى أسرت عاهلهم يوليوس قيصر، وجاءت بنفسها إلى ضفاف نهر التيبر للسيطرة على روما نفسها، وكما ذكر المؤرخ البريطانى هارولد ايدرس بل «لم يستطع أحد فى العالم القديم أن يقف فى وجه الرومان سوى ملكة مصر كليوباترا السابعة، والقائد القرطاجى هانيبال».
ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، واختار الرومان التخلص من قيصر، واُغتيل عام 44 ق.م فى مشهد درامى من أجل الحفاظ على الجمهورية التى خرق قيصر تقاليدها الراسخة وحولها إلى جمهورية هشة فى ثوب ملكى. وعندما علمت كليوباترا بمقتله، عادت مسرعة إلى الإسكندرية خوفًا من بطش الرومان بها، وتأجل حلمها بمقتل قيصر، ولكنها لم تفقد الأمل فى أى لحظة.
وتجدد أملها بظهور ماركوس أنطونيوس الذى استدعاها فقررت أن تلبى دعوته، وأنْ تحاول معه ما حاولته مع قيصر من قبل، الَّذى وقع فى بحر حبها الذى سبح فيه يوليوس قيصر سابقًا، وتزوجها ووهبها أراضى وملكًا كبيرًا، فزاد ذلك من مخاوف الرومان أكثر وأكثر. وظهرت الكثير من النبوءات الرومانية التى تقول إنَّ العالم سيخضع لحكم امرأة، وسيدين لها بالولاء فى كل شىء، فها هى الملكة المصرية كما وصفوها تتلقى من ماركوس أنطونيوس هدايا الأرض والولايات الخصبة على حساب الجمهورية الرومانية. ومثلت كليوباترا رمزًا لمقاومة الشرق المغلوب على أمره، وأملًا كبيرًا فى أن تعود أمجاد الشرق والقضاء على تعسف الحكم الرومانى.
وقد استغرقت علاقة أو قصة غرام كليوباترا وماركوس أنطونيوس اثنتى عشرةً سنة من 42 إلى 30 ق.م، ونالت حظًا وافرًا من الشهرة. وقد كان لهذه العلاقة أبلغ الأثر فى تشويه سمعته بين مواطنيه الرومان بعد أن استغلها أوكتافيوس ــ الذى سيطر على القسم الغربى من الولايات الرومانية ــ للمزيد من الدعاية المضادة ضده، وتأليب الرأى العام عليه. عندئذ اغتنمت كليوباترا الفرصة ودفعت أنطونيوس إلى تحدى أوكتافيوس ومنازعته السلطة، ولتأكيد صدق موقفها هذا عرضت على أنطونيوس مساعدتها، ووضعت تحت تصرفه جميع موارد مملكتها، وكان دافعها إلى ذلك هو تحقيق حلمها القديم الذى رأت أنه من الممكن أن يتحول إلى حقيقة على يد أنطونيوس، وتسيطر كليوباترا على العالم الرومانى، وتتحكم فى روما نفسها والتى أذلت أسرتها منذ عهد بعيد.
ولكن كان لا بد لطموح تلك الملكة البطلمية من نهاية، وخاصة أن نهايتها ارتبطت ببقاء روما نفسها، فكُتبت نهايتها هى وحبيبها أنطونيوس فى معركة أكتيوم البحرية عام 31 ق.م، ووقعت فى الأسر بعد هزيمتها فى المعركة. ومن هنا أدركت كليوباترا أنَّ أمامها خيارين أحلاهما مر؛ فإما أن تموت، وإما أن تساق مجتازة شوارع روما فى موكب النصر، فاختارت أن تأخذ نهايتها بيدها لا أن تساق فى موكب نصر أوكتافيوس الذى كان يعلم جيدًا أن وجود كليوباترا وابنها قيصرون تحطيمًا لآماله وتطلعاته. وكم كانت ذكية فطنة فى هذا الاختيار، فقد سبق لها الذهاب إلى روما وهى ملكة متوجة، وحلت ضيفة على قيصر فى قصره على التيبر؛ أما الآن فستعود مساقة مهزومة فى موكب نصر، وهذا لا يليق بأميرة يجرى فى عروقها دم ملكى على مدى أجيال طوال.
وعلى الرَّغم من وصف المؤرخين الرومان واليونان لكليوباترا بطريقة تسىء إليها، وتشوه صورتها كما ذكرنا فإن بعضهم لم يتجاهل بقية مميزاتها العقلية والثقافية وذكائها ومواهبها وفطنتها؛ فها هو بلوتارخوس يقول عنها «لقد كانت هناك عذوبة فى نغمات صوتها. أما لسانها فكان أشبه بآلة ذات أوتار عديدة تستطيع أن تضبطها على أى لغة تشاء»، وهذا جانب مهم يجب الإشارة إليه عند الحديث عن كليوباترا السابعة، وهو حبها ونهمها بالثقافة والمعرفة وحبها للعلم والعلماء، ولقد شهدت مدينة الإسكندرية فى عهدها ثورة ثقافية وعلمية كبيرة.
وبعدما أثير فى الآونة الأخيرة حول كليوباترا السابعة، أرى أنَّه لِزامًا علينا المضى قدمًا فى إجراء دراسة موضوعية تعتمد على مصادر متنوعة، سواء كتابات المؤرخين والشعراء أو المصادر الأثرية والعملات، بالإضافة إلى الوثائق البردية التى تؤرخ لعهدها الذى يمثل أهمية كبيرة، ونحاول إعادة كتابة تاريخ تلك الفترة المهمة، وأيضًا التنقيب فى علاقتها بشعبها، وهل صوروها كملكة وطنية تخشى عليهم وتسعى لمصلحة وطنها ووطنها هنا هو مصر، الذى ولدت وعاشت ودفنت فيه. تناول أغلب الكتاب حبها الأسطورى لأنطونيو وصنعوا منها امرأة تعيش على هواها ثم تموت ضحية عشق.. والقليل الذين أدركوا حسها العالى بالمسئولية وشعورها الوطنى الراقى، فهل كانت كذلك أمَّ أنها كانت مثل غيرها من الحكام الأجانب الذين حكموا مصر، وسيطرت عليهم مصالحهم واستغلوا مصر وشعبها أبشع استغلال. فكانت مصر بالنسبة لهم كالبقرة الحلوب يستنزف لبنها، وكالشاه التى يجز صوفها. كل هذه التساؤلات فى حاجة إلى إجابات موضوعية لدراسة قصة هذه الملكة الشبيهة بقصص الأساطير بما فيها من سحر وصراع وعشق وانتحار.


قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك