خبرة الغرب والشرق فى علاقة الدين بالدولة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 1:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خبرة الغرب والشرق فى علاقة الدين بالدولة

نشر فى : الخميس 1 أبريل 2010 - 9:42 ص | آخر تحديث : الخميس 1 أبريل 2010 - 9:44 ص

فى دوران المحمل كل عام احتفالا بمولد النبى كنت أحرص وأنا طفل صغير أعيش فى مدينة بالصعيد على الخروج من المنزل للاستمتاع بالفرجة على المحمل مع أصدقائى، وكان أهم ما يلفت نظرى هو العرض الذى يقدمه الحرفيون.. فمثلا يركب النجارون عربة كارو مع آلاتهم ويمثلون كيف يعملون بالمنشار والشاكوش أو الحدادون يوقدون النار.. وكل عربة يكتب عليها اسم الطائفة مثل طائفة النجارين والحدادين.. إلخ. وكلمة الطائفة لم تكن فى يوم من الأيام تطلق على من ينتمون إلى عقيدة معينة، بل كانت وما زالت تطلق على الذين ينتمون إلى حرفة معينة مثل السباكين أو الحلاقين.. إلخ.

كان هذا أيضا فى أوروبا قبل العصور الوسطى أو ما يطلق عليها عصور الظلام وفى الشرق قبل الخلافة العثمانية. وبوصول الأتراك إلى الخلافة أطلق اسم الطوائف على أتباع الأديان، فأصدر الخليفة العثمانى قرارات من الباب العالى لتنظيم حقوق وواجبات من ينتمون للطوائف الدينية ويعيشون فى كنف الخلافة.وفى أوروبا كان من أهم ما قامت به الكنيسة الكاثوليكية فى ذلك الوقت هو الفصل بين الطائفة الدينية والسياسية، وكان يرأس طائفة الحرفيين (العلمانيين أو السياسيين) الأمير الذى يحكم المقاطعة بينما يرأس البابا الطائفة الدينية.. فالأمير أصله دنيوى عالمى والبابا أصله إلهى مقدس.

6وقد نظر لهذا اللاهوتى توما الأكوينى فى القرن الثالث عشر، حيث أثبت من الكتاب المقدس والتاريخ اللاهوتى ذلك الاستقلال للسياسة عن الدين عندما تحدث عن إن هذا الترتيب هو من مشيئة وإرادة الله العليا. وقاد العلمانيون فى ذلك الوقت حملة منظمة فكرية وشعبية أساسها حرية الفرد، وأن الفرد دون معونة من أحد قادر على أن يصل إلى الحقيقة بمفرده.. وهكذا قام الأفراد بتقنين وتنظيم فكرة المدينة والدولة ثم السلطة السياسية وكل هذا قاد إلى العلمانية.. ثم جاء عصر الإصلاح الدينى فى القرن السادس عشر على حساب تفكيك الإمبراطوريات، والتى كان على رأسها البابا الذى يعين الملوك. وبهذه الثورة الدينية الإصلاحية تم الإصلاح الاجتماعى وفرض الديمقراطية ثم جاء عصر النهضة، وقامت الحداثة على أنقاض السلطة الدينية والإمبراطورية.

هذا عكس ما حدث فى الشرق الإسلامى حيث قامت الخلافة على حساب القبلية ومحاولة إذابة الفروق الفردية والقبلية والطائفية للجماعة لحساب الإمبراطورية ككل، مما جعل التركيز على الفردية نوعا من الخطأ أو الخطيئة. فالجماعة هى الأصل وهى الخلاص. ومما أدى إلى ترسيخ مثل هذا المفهوم هو أن الإمبراطورية الإسلامية قامت على التوسع بالحرب للوصول إلى أطراف العالم وقد كانت أحد مبررات قيام الخلافة العثمانية وأحد أهم أهدافها هو انتشار الإسلام فى كل دول العالم ومن هذا المنطلق أمكن تحديد ملامح نظام الحكم. فقد كان للخليفة وجهان، وجه دينى كخليفة للمسلمين على طريق الخلفاء الأربعة ووجه مدنى عسكرى أطلق عليه(فقه الضرورة).. أى ضبط الدولة فى الداخل وتعضيد الجيش فى الخارج ــ أى سلطة القهر ــ وأهمية التوسع. ومن هنا جاءت الحضارة الإسلامية بعلاقة تتسم بالتوتر بين الشرعية الدينية والضرورة العسكرية والسياسية، بينما استطاعت الثقافة الأوروبية أن تفصل بين الشرعى الدينى والضرورى العسكرى بالفصل بين مصدريهما الأمير والبابا، وهكذا أصبح السياسى ينقسم إلى فئتين حكم ومعارضة والاثنان بعيدان عن الشرعية الدينية، بينما شرعية الحكم فى الدولة الإسلامية تستمد فقط من النموذج المثالى الدينى (الخلافة).

وبنظرة إلى فلاسفة أوروبا فى مقارنة مع الفلاسفة المستنيرين من المسلمين نجد أن توما الأكوينى جعل العقل هو المرجعية وأداة المعرفة للعدل والحق والمساواة، دون محاولة منه لإيجاد شرعية دينية لهذه القيم.. بينما نرى ابن رشد وابن سينا والفارابى يحاولون التوفيق بين العقل والوحى أو الشريعة.. وإن كان ابن رشد أكثرهم انحيازا للعقل لكنه لم يحاول تجنيب الدين الشرعى نهائيا كأداة للمعرفة. هكذا وعلى مدى التاريخ الإسلامى كان هذا التوتر ففى القرن الحادى عشر كانت المعضلة فى كيفية استمرار الخليفة مع أو بالتوازى مع السلطة الخارجية لأمراء المقاطعات.. فقد كانت صلاحيات الخليفة مستمدة من الدين مباشرة وهذا يعطيه الحق الإلهى فى أن يوكل حكمه لمن يشاء، وأن الكفاءة الدينية للشخص أهم من الكفاءة السياسية. بالتالى لم يحدث أن خلق مجال سياسى مستقل يمكن اعتباره معارضة لأن المعارضة هنا تعنى معارضة الحق ذاته. أما أبو حامد الغزالى فهو أول من استخدم مصطلح الضرورة، وأوضح أن هناك فارقا بين الشرعى الدينى (الخلافة) والضرورى (السياسة)، وقام بالتفريق بين الطاعة القائمة على مبدأ الضرورة والطاعة القائمة على مبدأ الشرعى الدينى. فالشعب عليه أن يطيع الأمراء بناء على فقه الضرورة، أما الأمراء والخلفاء فعليهم أن يحترموا شريعة الله.

من هنا ظهرت النخبة من العلماء الذين يحيطون بالحاكم الإسلامى لكى يبينوا شرعية قراراته من عدمها.. وهو ما يطبق اليوم فى إيران ومحاولة الإخوان المسلمون بنائه فى مشروع إنشائهم لحزب، حيث أصروا على وجود هيئة العلماء التى يرجع إليها الحكام والسياسيون لمعرفة مدى شرعية ما يتخذونه من قرارات، وهو أيضا ما يعطى شيخ الأزهر من أهمية قصوى فى مصر لكى يبرر شرعية قرارات النظام. أما العلماء الذين توالوا بعد أبوحامد الغزالى فقد بذلوا الجهد فى بنيان الفرق بين الشرعى والضرورى وكيفية التوفيق بينهما بصورة أو أخرى، حتى تسيد الفكر القائل أن واجب الأمير (الحاكم السياسى) والعالم الدينى معا هو تحويل سلطة الضرورة (الأمر الواقع) أى كل ما يموج به المجتمع من حكم ومعارضة واقتصاد واجتماع إلى سلطة شرعية.. ومن منطلق تسيد هذا الفكر بدأت حركات الإحياء الدينية تتشكل، تلك الحركات التى تؤمن وتنادى بأن الشرعية الدينية فوق السلطة الدنيوية، وقد رجعوا تاريخيا إلى الصراع على الخلافة بين على بن أبى طالب وعثمان بن عفان، فى مدى الشرعية الدينية لخلافة عثمان مما أدى إلى مصرعه، والمرجعية هنا ليست لإيمان الحاكم بالإسلام لكن لمرجعية حكمه الدينية منطلقا من سلوكه الشخصى، حيث اعتبر عثمان أن الخلافة قميصا ألبسه الله إياه.

إن هذا الأحياء الدينى والمستند على سيادة الشرعى على الدنيوى كان هو الغذاء لمعارضة السلطات القائمة على طول العالم الإسلامى وعرضه. هكذا رأينا الجماعات الإسلامية على مدى نصف قرن من الزمان تنادى بعدم شرعية الحكام، فى الوقت الذى لا نجد فيه ــ بالطبع ــ أى حاكم عصرى إسلامى يضع الشرعى فوق الضرورى أو يستمد شرعيته من الدين باستثناء (أحمدى نجاد).. لذا فقوة المعارضة تأتى من تأكيدها على الشرعية الدينية، بينما الحكم المعاصر يعتمد على سيادة الشعب بالانتخاب المباشر لرئيسه، وسيادة الشعب هى مجموع إرادة الأفراد، حيث يتمتع الأفراد بالحرية الشخصية لاختيار من يمثله ومن يحكمه، وهو ما وصلت إليه الشعوب الأوروبية. أما فكرة السيادة الشعبية فى الثقافة العربية والإسلامية فلا معنى لها ذلك لأن فكرة الحاكمية (حكم الله) هى التى تسود، فالسيادة المطلقة لله وليس للشعب.. حتى فكرة الإجماع الشعبى والتى فى الجمهوريات والملكيات الدكتاتورية مرفوضة تماما من الجماعات لأن شرعية الإجماع ــ عند التطبيق ــ تقلص إجماع العلماء، أى المرجعية الشرعية.. لذلك فإجماع الشعب ــ حتى لو كان مزيفا 99.99% ــ مرفوض.

وفى محاولات المفكرين الإسلاميين المحدثين مثل القرضاوى وطنطاوى والطيب وغيرهم فى أن يجتهدوا لتأصيل فكرة مرجعية العقل، كان تأصيلهم تحت بند فقه الواقع والضرورة، فالاجتهاد القائل إن تلتزم المرأة المسلمة فى أوروبا بالملابس الأوروبية باحتشام وان يلتزم المسلم فى أوروبا بقوانين الدولة، التى يعيش فيها وغير ذلك من الاجتهادات والفتاوى، تأتى تحت الضرورة والواقع وليس الشرع، فالمعايير التى يستخدمونها ليست (شرعية) إنما لأجل الضرورة، وكل هذا يصب دائما فى صالح المعارضة الدينية. وهكذا يتهم كل مفكر إسلامى ينادى بفصل الدين عن السياسة بأنه يحاكى الغرب وأنه خائن للإسلام.. فأى اجتهاد يؤدى إلى فصل الدين عن السياسة هو نوع من الكفر بالإسلام.

لم يعد أمامنا إذن إلا ثلاثة طرق فاشلة، الأول هو فشل الأنظمة الحاكمة فى إقناع المسلمين بنظرية حكم حديثة تجعل شعوبهم تقبل بشرعيتهم فلجأوا إلى القمع والحكم الاستبدادى، والثانى فشل المثقفون الليبراليون فى تخليق اجتهاد شرقى إسلامى يعتبر مرجعية فى جعل العقل والمعرفة هما المرجعية فى السياسة والقوانين.. إلخ، فكل ما يرددونه هو محاكاة التجربة الأوروبية فى الحداثة وما بعد الحداثة.. إلخ، أما الطريق الثالث فهو فشل المعارضة والجماعات الإسلامية، حيث إنها غير قادرة على تقديم مشروع متكامل ومتجدد وحديث للحكم يعتمد على سلطة الشعب بخلفية شرعية، فلم يتبق لها سوى التأكيد على الأخلاق واللحية والملبس الإسلامى للنساء.

السؤال المطروح الآن هو هل يعجز العلماء والمثقفون العرب فى تقديم برنامج حداثى يقنع شعوبهم بفصل الدين عن السياسة دون استخدام القوة العسكرية؟!  

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات