رئيس متواطئ - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:50 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رئيس متواطئ

نشر فى : الأربعاء 1 يونيو 2011 - 8:21 ص | آخر تحديث : الأربعاء 1 يونيو 2011 - 8:21 ص

 رأيته فى الصورة وقد ذبلت عيناه، وزاغت نظراته، وكبلت يداه، وانحنى ظهره. لم يشبه فى كثير أو قليل الرجل الذى كنت أعرفه باسم شتراوس كان، حين كان يلمع كنجم فى سماء المجتمع السياسى الفرنسى، ثم كرئيس لصندوق النقد الدولى. كانت صورته التى نشرتها الصحف الأمريكية ونقلتها صحف أوروبا صورة صادمة، ولكن حافلة بالمغزى، ومثيرة لإيحاءات شتى.

•••


ما قيل فى نيويورك فى تحليل الحادث وأصدائه يختلف جذريا عما قيل ويقال فى باريس ومدن أوروبية أخرى. أما جوهر الاختلاف فى التحليل فمرتبط بجوهر الاختلاف بين الثقافة الأنجلوسكسونية والثقافة «اللاتينية»، ففى الولايات المتحدة كما فى بريطانيا لا ينفصل الخاص عن العام فى حياة وسلوكيات رجل السياسة.

بينما فى فرنسا وإيطاليا، يسود الاعتقاد بأن الحياة الشخصية للقادة السياسيين ملك خاص لهم ولا يجوز انتهاكها! رأينا كيف تعامل الإيطاليون مع رئيس وزرائهم بعد نشر صور السهرات الليلية التى يقيمها فى قصوره ومنتجعاته ونشر تصريحات تدينه بالكذب وبخاصة خلال التحقيق فى علاقته بفتاة قاصر ادعى كذبا أنها من عائلة الرئيس المصرى حسنى مبارك. حينذاك اعتبرت غالبية الايطاليين أن ما يفعله سيلفيو بيرلسكونى إنما هو شأن خاص واعتبر بيرلسكونى هذا الموقف من جانب الشعب دليل على أنه يمارس ما يمارسه أو يحلم بممارسته المواطن الإيطالى العادى.

•••


من ناحية أخرى، بدا واضحا خلال أزمة رئيس الصندوق الدولى اتساع شقة الاختلاف بين مفهوم العدالة فى الثقافتين، لذلك لم يكن مفاجئا لنا أن يشعر الرأى العام الأوروبى بالصدمة للطريقة التى اعتقل بها رجال الأمن الداخلى فى الولايات المتحدة السيد شتراوس.

ففى الثقافة الأمريكية، وخلافا للمبادئ والأفكار التى ينبنى عليها مفهوم العدالة فى القانون الأمريكى، تعامل الشرطة المشتبه فيه كمتهم مدان حتى قبل أن تبدأ تحقيقات النيابة معه. يحدث الشىء نفسه فى دولنا العربية والإسلامية حيث تؤمن قطاعاتنا الأمنية بمبدأ أن المشتبه به مدان إلى أن يثبت التحقيق براءته، هذه المعاملة لا يستسيغها العقل القانونى ولا تنسجم مع مفاهيم العدالة فى فرنسا. لذلك كانت الصدمة التى أصابت الرأى العام حين شاهد أحد قادته السياسيين يساق بإهانة بدت متعمدة وبمعاملة كانت بالفعل غير إنسانية.

قرأ الأوروبيون أن الأمريكيين حبسوه انعزاليا فى زنزانة مخصصة للمشتبه فيهم من المصابين بأمراض خبيثة وأنهم نقلوه إلى مكتب الادعاء مقيدا بالأصفاد بعد أن أبلغوا وسائل الإعلام ودعوها لتصويره فى أحط الأوضاع. قرأوا أيضا أن أمريكيين تصرفوا بهمجية حين سربوا إلى أجهزة الإعلام تفاصيل سقطاته السابقة فى فرنسا وفى مقر عمله فى واشنطن.

•••


نحن كشرقيين متهمون فى الغرب بأننا من عشاق نظرية المؤامرة. وقد ذاع هذا الصيت إلى حد أن كثيرا من المثقفين العرب والإسلاميين صاروا يرددون الاتهام فى تحليلاتهم وكتاباتهم. يقولون إن العرب لا يريدون السلام مع إسرائيل لأنهم يؤمنون بأن إسرائيل والغرب خططوا لتنفيذ مؤامرة عالمية ضد نهوض العرب والمسلمين، وأننا نستسهل إلقاء المسئولية على المؤامرة الخارجية لنتفادى تحمل وزر الهزائم المتلاحقة، ونسمعهم هذه الأيام ينسجون ويدعون إلى التمثل بالغربيين الذين يرفضون نظرية المؤامرة ويعتبرونها دليل تخلف حضارى.

فى الأسبوع الماضى خرجت صحف فرنسية عديدة وتقارير من مراكز بحثية تزف إلى الرأى العام الفرنسى اقتناعها أن وراء اعتقال شتراوس ــ كان مؤامرة سياسية. أحد هذه المراكز أجرى استطلاعا للرأى فاكتشف أن 57٪ من الشعب الفرنسى يعتقد أن شتراوس ــ كان ضحية مؤامرة. وكتبت مجلة اكسبريس تقول إن 90٪ من تعليقات وإسهامات قرائها تعتبر أن القضية بأسرها دبرتها وأخرجتها مؤامرة.

•••


وعلى كل حال. لم تكن المرة الأولى التى يقف فيها المجتمع الفرنسى محتجا على انتهاك خصوصية رجل دولة أو سياسة فى فرنسا، إلا أن المثير فى الموضوع هو أن أكثر التعليقات التى تناولت القضية ربطتها بنيكولا ساركوزى رئيس الجمهورية، فى إشارات واضحة إلى أنه لعب دورا فى التخطيط لها وإثارتها، باعتبار أن رئيس الصندوق الدولى كان يستعد لإعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية فى يونيو 2012 منافسا لساركوزى.

كانت فرصة ذهبية ليقوم الإعلام الفرنسى بممارسة هوايته المفضلة، وهى انتقاد رئيس الجمهورية وإعادة فتح ملفات تسىء إلى هيبته وسمعته فى وقت تدنت فيه شعبيته إلى حدود لم تعرفها من قبل الحياة السياسية الفرنسية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تخرج للأسواق ثلاثة كتب تحكى سيرة ساركوزى، وكلها، بهذه المناسبة، تحاول معرفة الأسباب التى تدفع ساركوزى إلى بث الكراهية ضد الآخرين، حتى جلبها على نفسه.

كتب مؤلف لواحد من هذه الكتب يقول إن ساركوزى يشبه العروس الورقية أو القطنية التى يستخدمها السحرة والمشعوذون يغزونها بالدبابيس لإلحاق الضرر والألم بالخصوم والأعداء.

وكتب فرانز أوليفييه جليسبير Glesbert فى كتابه الصادر بعنوان «سيدى الرئيس» واصفا الرئيس بالقزم المتوحش القاطن فى قصر الإليزيه. وكتب آخرون عن النقص فى «فرنسية» الرئيس، وهو القادم من «لا مكان» ، ووصفه كاتب آخر بأنه «طاغية صغير يعشق المال وصحبة الأغنياء»، ومعروف برغبته الشديدة الاستفادة لمصلحته الشخصية من ولع بعض الصحفيين والكتاب بممارسة السياسة والصحافة فى وقت واحد، وهى العلاقة التى يطلقون عليها فى فرنسا «التواطؤ غير المقبول». وهى العلاقة الشائعة فى جميع المجتمعات العربية.

•••


لم أعرف شخصا اقترب من ساركوزى إلا وقال فيه رأيا قويا. فللرئيس الفرنسى تصرفات تجبر الآخرين على أن يتخذوا منها مواقف وآراء حاسمة. قرأت لكوشنير، وهو أحد السياسيين الذين اقتربوا من ساركوزى مدة غير قصيرة، عبارة يلخص فيها رأيه فى شخصية وأخلاق ساركوزى، قال «هذا الرجل له قناعات متعددة.. أم نقول هذا الرجل له قناعات متعاقبة».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي