عتب المتعبين - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عتب المتعبين

نشر فى : السبت 1 سبتمبر 2018 - 9:45 م | آخر تحديث : السبت 1 سبتمبر 2018 - 9:45 م

المراكب تروح وتجيء على صفحة النيل بألوانها الصارخة ولمبات النيون الملونة وأفرع الزينة التي تضيؤها، لتلخص فرحة البسطاء وحكاياتهم. تمتزج أصوات المغنيين لتصنع بهجة المدينة بإيقاعها الراقص، ولكنها كثيرا ما تعبر عن حزن وألم الفراق وعتاب المحبين، فمعظم أغانينا الشعبية تتحدث عن معادن الناس والخل الوفي أو الخسيس والحب والوصال والصدود وعذاب الحنين واللهفة والقلق والشوق، إلى ما غير ذلك. نبرة الصوت تكشف عن درجة الزعل ولهجة العتاب وتندرج رغم الاختلاف الشديد تحت مظلة أبيات أحمد شوقي حين قال: "على قدر الهوى يأتي العتاب ومن عاتبت يفديه الصحاب" و "أما العتاب فبالأحبة أخلق، والحب يصلح بالعتاب ويصدق"، ففي المخيلة الجمعية كثرة العتاب دليل على الحب وأداة لازدياد العلاقة وتماسكها بين المحبين، خاصة إذا جاء اللوم بطريقة لطيفة، وبالتالي ظهرت الأمثال على نمط: "العتب على قدر المحبة"، و"العتاب صابون القلوب".
لا يخاف لومة لائم من هو على حق. ينبري في الدفاع عن نفسه ويطول الشرح وربما الزعل، لكنه في النهاية يبوح بما تجول به نفسه ويرتاح لأنه عبر عن غضبه ولم يقمعه داخله، فحل المشكلات لا يكون بكبتها بل بمناقشتها وتفكيكها حتى تتلاشى دون عنف أو حقد أو ضغينة. الأغنيات تروي قصة الاتهامات المتبادلة خلال عميلة العتاب، تنفث في الأذن، تناجي بصوت هامس، فتنطلق مثلما تقول فيروز في أغنية "غالي الدهب غالي" للأخوين رحباني " وعا قد المحبة العتب كبير، يا أهل الدلال، يا ساكنين البال، قلبي ع بواب الحبايب ضيع مواعيدو".
***
الشعر الغنائي التراثي العربي مليء بخواطر الزعل والخيبات والندم، فتحضرنا قصص "الميجانا والعتابا" المنتشرة في لبنان وفلسطين وسوريا، بل ظهر فن "العتابا" في العراق. الكلمة مشتقة من العتاب، وهذا النوع من الغناء الفولكلوري من مبتكرات عشيرة الجبور العراقية. لا يتصرف الحبيب بالطريقة التي كان يتوقعها منه الشخص المعاتب فيلومه على تصرف متناقض أو غير واضح، فهناك سيكولوجية للعتاب يمكن من خلالها تحليل شخصية الأفراد الذين يستخدمونه بكثرة فنفهم إن كان دليلا على عدم الثقة أو التسلط أو التلاعب أو الابتزاز العاطفي، إلا أنه يسمح أحيانا بإتاحة فرصة للاعتذار ومحو ما علق من آثار سلبية بسبب بعض المواقف.
انتشرت "العتابا" بين القبائل، وتناقلها الغجر أو النَور. أخذوا ينشدونها من خيمة إلى خيمة، ومن بادية إلى أخرى. يعزفون على الربابة ويتجولون بها للارتزاق. يمدحون صاحب الدار وعشيرته، ويعتبون عليهم ساعات، إلى أن يمل صاحب الدار الغناء فيعطيهم بعض الدراهم. وتسرب بعض هؤلاء المغنيين إلى المدن فترددوا على المقاهي وبعض المجالس لينشدوا أبيات العتابا التي تتألف من أربعة أشطر، بعدما يمهدون لها بنغمة "أوف" التي يتفننون في مد أصواتهم فيها وتمويجها كلٌ بحسب قدراته. يلفتون نظر الجمهور الذي صار مستعدا للمشاركة والتشجيع، ويمهدون للعتابا بغناء الميجانا، وهو نوع آخر من الزجل أو الشعر الغنائي التراثي الشعبي المنتشر أيضا في سوريا ولبنان وفلسطين، فيقال " اطلع عتابا واكسر ميجانا".
***
وأصل تسمية الميجانا التي ظهرت في فلسطين هي ( يا ما جانا، أي ما أكثر ما أصابنا)، إذ يحكى أنه تم اختطاف سيدة فلسطينية غاية في الجمال من قبل أحد الإقطاعيين في مدينة الجليل. وعندما علم زوجها أخذ يجول ويجول في جميع القرى والنجوع بحثا عنها، وكان يناديها بكلمات مليئة بالحزن، تتخلل هذه المناجيات عبارة واحدة " ميجانا أو يا ما جانا". ومنذ ذلك الحين تناقلت الأجيال هذا الأسلوب في الغناء، وصار يمهد لأبيات العتابا. غناء يروي ما أصابنا، بمقدار الخيبات والندم.

التعليقات