الديمقراطية قاتلة الأوطان.. نماذج عن تجارب انتخابية عربية فريدة - طلال سلمان - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الديمقراطية قاتلة الأوطان.. نماذج عن تجارب انتخابية عربية فريدة

نشر فى : الأربعاء 1 ديسمبر 2010 - 10:45 ص | آخر تحديث : الأربعاء 1 ديسمبر 2010 - 10:56 ص

من بين شعوب الأرض جميعا يبدو العرب وكأنهم، بفضل أنظمتهم الأبدية، يسيرون القهقرى، أى أنهم يتراجعون عن حيث كانوا قبل قرن من الزمان إلا قليلا

صحيح أن العرب، وفى مختلف أقطارهم لم يعرفوا «الديمقراطية» بصيغتها المثلى، على الطريقة الغربية، والتى طالما بهرتهم ــ ولا تزال تبهرهم ــ لكنهم لم يتمكنوا من أن يعرفوا الطريق السليم إليها... ولذلك أسباب لعل أخطرها أن «العرب» لم يتعرفوا إلى الدولة إلا مع تبدل هوية الاستعمار: كان عثمانيا مخضعا فى حقبته الأخيرة للهيمنة الأجنبية ــ الأوروبية تحديدا ــ التى أخرت إسقاط السلطنة حتى تفرغ من الاتفاق على اقتسام هذه المنطقة جميعا، وكانت الحرب العالمية الأولى هى اللحظة المناسبة: جاء الاستعمار الغربى (إنجليزيا وفرنسيا) إلى المشرق فقطع خريطته وفق مصالحه، موسعا فيها المساحة المطلوبة لقيام إسرائيل.

هكذا صارت سوريا الطبيعية دولا عدة، معظمها غير قابل للحياة إلا بالعون الأجنبى المباشر (الأردن مثالا، ثم لبنان..)، وفى حين اقتطعت من تلك الـ(سوريا ) مساحة لإمارة هاشمية ستغدو «مملكة» بعد النكبة فى فلسطين، فقد أقيم العراق على طريقة الفرز والضم ليكون مملكة بديلة من حجاز الشريف حسين (قائد الثورة العربية التى قادها الضابط البريطانى الغر توماس ادوارد لورنس).

ليست مبالغة القول إن دول المشرق العربى قامت على قاعدة اتفاقية سايكس ـ بيكو (1916) التى جاء وعد بلفور ( 1917) ليبلور صورتها الكاملة بإقطاع فلسطين للحركة الصهيونية بذريعة « الحق التاريخى» فيها، والتى عززها ــ خلال الحرب العالمية الثانية ــ اضطهاد ألمانيا الهتلرية لليهود، فكان على العرب، وشعب فلسطين بالذات، أن «يعوضوهم» بإقامة دولة إسرائيل على أرضهم... وقد أقيمت بالقوة التى تواطأ على توفيرها العالم كله ــ بغربه وشرقه ــ لتكون الفاصل بين مشرق الأرض العربية ومغربها، إذ هى تقطع بين كل من سوريا ولبنان والعراق وما خلفه حتى بحر العرب والمحيط الهادئ، وبين مصر وما خلفها غربا حتى المحيط الأطلسى.

وكان العجز العربى فى مواجهة المشروع الإسرائيلى فاضحا الى حد الهزيمة الجارحة بكل نتائجها المروعة: طى صفحة المشروع العربى للتحرر والتوجه نحو حلم الوحدة ولو بحدها الأدنى، أى التكامل، التى أريد من جامعة الدول العربية أن تجسده.. فى الهواء!

بالمقابل، كانت أقطار المغرب الغربى جميعا تحت الاستعمار الفرنسى، أما ليبيا فقد شارك الإيطاليون فيها البريطانيين والفرنسيين ثم جاء الأمريكيون فى أوائل الستينيات،فيما عدا مصر لم يكن فى هذا العالم العربى مترامى الأطراف «دولة». وحتى مصر كانت مخضعة لاحتلال بريطانى امتد حتى العام 1956، ثم شهدت محاولة لعودته إليها ثلاثيا ( فرنسا وإسرائيل إلى جانب بريطانيا) عبر العدوان الثلاثى فى الربع الأخير من العام 1956.

إذن، لا دول عربية حتى منتصف القرن الماضى، وهذه «الدول» التى استولدت ضعيفة مقطعة الأوصال، على قاعدة طائفية أحيانا (لبنان، مع محاولة فاشلة فى سوريا) وعشائرية أحيانا أخرى (إمارة شرقى الأردن) ومختلطة فى حالة العراق الذى لم يكن لكيانه السياسى وجود مستقل فاستحدثه البريطانيون بما يناسب مصالحهم فى عشرينيات القرن الماضى، مع حرص شديد على عزله عن الخليج العربى بدءا من الكويت، وعن شبه الجزيرة العربية (السعودية تحديدا) لأسباب نفطية!

منطقيا: منذ 1948 كانت إسرائيل هى «الدولة» الوحيدة فى المشرق العربى، المبنية على النموذج الغربى، والتى جاءت إليها الأحزاب والنقابات كما الجيش جاهزة تتنافس داخل الكيان، ولكنها جميعًا مجندة لخدمة «مشروعها السياسى» الذى كان عنوانه احتلال فلسطين وطرد نصف شعبها منها، وإرهاب جميع الدول المجاورة بحروب لا تقدر عليها كما دلت الهزيمة العربية فى فلسطين 1948.

كيف تكون «ديمقراطية» والأرض محتلة، والحكم للاستعمار ووكلائه، أو للجيوش التى جعلتها الهزيمة تنتبه إلى أن العدو خلفها أيضا، فى العاصمة، وليس أمامها فى الجبهة التى تعجز عن حمايتها، فكيف بالنصر فيها؟!

جاءت الهزيمة بالجيوش إلى السلطة والجيش جسم عسكرى منضبط يعتمد على الإمرة وإطاعة المرءوس رئيسه بغير نقاش.

كانت الأحزاب القديمة مدانة بالفساد ثم بالهزيمة، وكان عليها ان تخلى الساحة لأحزاب جديدة، بعضها كان قائما ولكنه «منتهى الصلاحية»، وبعضها الآخر كان فتيا ولكنه لا يستطيع الوصول إلى السلطة إلا عبر الجيش وبالاشتراك معه.. وهكذا توالت الانقلابات العسكرية (أو الثورات) فى أعقاب الهزيمة، حاملة الجيوش الى السلطة، على أمل العودة إلى مهمة تحرير الأوطان، فضلا عن فلسطين، فى وقت لاحق، ومتى توفرت للحكم الجديد عناصر القوة.

لا ديمقراطية فى الوطن العربى من أدناه إلى أقصاه: هذه حقيقة قد تكون جارحة، ولكن لا مفر من الاعتراف بها.

إن أهل النظام العربى يعتبرون أنفسهم التجسيد الحى للإرادة الشعبية... والاستفتاء هو الطريق الأقصر إلى ديمقراطية مصنعة يدويا، لا تعرف المعارضة، فإن قبلت ببعض رموزها المتهالكة فمن اجل الحصول على شهادة بالانفتاح والمعاصرة واحترام التنوع والسماح بحرية التعبير عن المعارضة، وأن مدجنة وتجهر بولائها للسلطان وتدين المعارضة الأخرى، «المتطرفة» و«الانقلابية» ولا تمانع فى اتهامها بوطنيتها، تاركة للسلطان ذاته أن يبدو متسامحا وحريصا على الديمقراطية بدليل أنه «يضربها بلطف»، ويؤدبها حتى لا تؤذى نفسها إذا جنحت إلى السلطة أو تطرفت فأثارت الفتنة وقسمت الشعب الموحد خلف القائد التاريخى!

الانتخابات؟ فلتكن! ولنقدم الدليل الحى على الإيمان بالديمقراطية!

ليرشح نفسه من شاء من المواطنين، معارضين من كل الأنواع، فيهم الشيوعى وفيهم الأصولى، فيهم المتدين الرزين وفيهم المتطرف الهائج، فالكلمة للشعب، أو من ينوب عنه فى تجسيد إرادته. وهكذا يندفع الجميع إلى خوض الانتخابات بالأمر: اليسارى واليمينى والوسطى، الإقطاعى والفلاح والعامل، المثقف والأمى والبين بين. للجميع الحق فى الديمقراطية طالما أنهم يسلمون بشرعية القائد وحكمته وإيمانه العميق بالديمقراطية، بدليل أنه يكون فى العادة أول من يقترع وآخر من يعرف بنتائج عملية الاقتراع، مطمئنا إلى أن «شعبه الطيب» لن يؤذى نفسه باللعب فى المنطقة الحرام!.

ثمة نماذج أخرى للديمقراطية فى الوطن العربى هى «الديمقراطية الطوائفية»!

لا تتوقف كثيرا أمام التناقض بين الطائفية والديمقراطية. عليك أن تسلم بالواقع. إلا يتشكل الشعب من طوائف ومذاهب وعناصر متعددة.. إذن فلماذا لا يكون لكل «فئة» ان تعبر عن نفسها بحرية كما كان يجرى فى لبنان، الذى بات الآن قدوة ونموذجا فذا لديمقراطية الحرب الأهلية؟... وهذا هو العراق تحت الاحتلال الأمريكى ليقدم تجربة غير مسبوقة فى إلحاق الهزيمة بالاحتلال عن طريق الديمقراطية الطوائفية. صحيح أن فى ذلك شيئا من الخطر على وحدة الشعب، وبالتالى وحدة كيانه السياسى، لكن الصحيح أيضا أن الديمقراطية أهم من الوحدة، وتمكين الرعايا من أن يقرروا صيغة نظامهم الجديد هو فتح جديد فى عالم الديمقراطية.

ثمة نموذج ثالث لديمقراطية أهل النظام العربى قدمه الحاكم فى اليمن سعيدا منذ ثلث قرن تقريبا: السلطة كل السلطة لحزبه، والمعارضة لأشتات المختلفين معه، لا فرق بين زيدى وشافعى إلا بحجم القمع، فالحوثى لا يشفع له انتماؤه إلى مذهب الحاكم- الإمام- الخليفة الرئيس (الزيدى) بل تجرد عليه الحملات العسكرية التى تدفعه إلى الحدود الملغمة بالخلافات التاريخية مع السعودية لاستدراج تعاونها مع النظام، و«الشافعى» فى الجنوب يتحول إلى «عناصر من القاعدة» توسع دائرة نفوذها بحيث تصير مصدرا للخطر ليس على النظام وحده، بل على «الاستقرار» فى منطقة منابع النفط سريعة الاشتعال فى شبه الجزيرة العربية، وعلى طريق النفط من منابعه إلى مستهلكيه فى الغرب، وأساسا على الشركات ــ الإمبراطوريات التى تتحكم فى إنتاجه وفى أسعاره وفى طريقه إلى البلاد الباردة أو المتقدمة صناعيا والتى تحتاجه أكثر بما لا يقاس من أهل المنبع.. المتخلفين!

أما السودان المخضع لحكم عسكرى بشعار دينى فيمكن لحزب حاكمه أن يلتفت إليك شامتا: هل اطمأننت إلى إنجازنا الديمقراطى.. لقد اعتمدنا الديمقراطية فانتهينا إلى انفصال الجنوب، وربما سيليه انفصال أنحاء أخرى، ولكن، كل هذا لا يهم، فالنظام باق، وهو أهم من وحدة الوطن!

ونعود إلى الديمقراطية الطوائفية أو التوافقية كما يطلق عليها فى لبنان:

إن هذا الوطن الصغير يتعرض إلى زلزال سياسى مع كل انتخابات نيابية أو رئاسية تجرى فيه... والفضل لتلك الديمقراطية التى تمنع قيام الدولة بمعناها المألوف والمعروف، وتجعلها دائما معرضة للتفكك!

والديمقراطية التوافقية مثل ديمقراطية الحاكم الفرد لا تبنى دولة بل هى تهدم مشروع الوطن، إذ تفتح الباب لتدخل «حماة الطوائف» وجودا ومصيرا أو مشاركة فى الحكم، ومتى دخل هؤلاء بأغراضهم ومصالحهم انتفى وجود الدولة ليبقى النظام بوصفه «مصلحة للأجنبى» الذى لا يضيره فى شىء أن ينتفع الحاكم بخيرات «الديمقراطية» المصنعة على مقاس مطامحه وأغراضه.

وليس من الديمقراطية، طبعا، أن تخير «الرعية» بين استقرار الوطن ووحدة شعبه بتأمين استمرارية النظام، وبين الفوضى أو الحرب الأهلية إذا ما قرر الناس التعبير عن آرائهم بحرية قد تذهب بالدولة!

إن «ديمقراطية» أهل النظام العربى قاتلة للدول، ومدمرة لوحدة الشعب، أحيانا.. وربما لهذا تستكين الشعوب العربية لأنظمتها المعادية بطبيعتها للديمقراطية لأن المفاضلة فى الخيار قد تعنى تدمير الدولة.

و«شبه دولة» قد يظل أفضل من الحرب الأهلية، أو من الفوضى الدموية، فى قلب الفقر والعجز عن التقدم، ناهيك بمواجهة العدو القومى الذى تمثله الهيمنة الأمريكية ــ الإسرائيلية على المنقطة برمتها!

طلال سلمان كاتب صحفي عربي بارز، مؤسس ورئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية، كما أنه عضو في مجلس نقابة الصحافة اللبنانية - المدونة: www.talalsalman.com
التعليقات