ýفى فيلم «ضد الحكومة» (1992)، كان مشهد الأطفال الذين دهسهم القطار لحظة مفصلية فى تاريخ السينما المصرية، ليس فقط لأنه أثار موجة من الغضب الشعبى وقتها، بل لأنه جسّد بصدق كيف يمكن للإهمال المؤسسى أن يقتل.
ýبعد أكثر من ثلاثة عقود وفى قرية السنابسة بمحافظة المنوفية، وقع مشهد مشابه فى قسوته وفداحته. ميكروباص يقل 22 فتاة يعملن فى إحدى مزارع العنب بالأجر اليومى يصطدم بسيارة نقل ثقيل على الطريق الدائرى الإقليمى غير مكتمل الإصلاحات، يُعرف بين الأهالى منذ سنوات باسم «طريق الموت». لقيت 18 فتاة وسائق الميكروباص حتفهم فى لحظة، وخرجت القرية كلها فى جنازة جماعية لا تختلف كثيرًا عن مشهد النهاية فى الفيلم سوى أن هذه المرة لم تكن على الشاشة.
ýالسيناريو مكرر.. كما فى «ضد الحكومة»: تبدأ المأساة من تحذيرات تجاهلها المسئولون. فى الفيلم، كانت شكاوى الأهالى من خطورة المزلقان المهمل. وفى قرية السنابسة، كان التحذير واضحًا من سكان القرية حول الطريق المتهالك، المغلق جزئيًا، بسبب إصلاحات متوقفة أو بطيئة، لا تُراعى الحد الأدنى من قواعد السلامة.
ýالمشهد لا يحتاج إلى خيال سينمائى: طريق ضيق، أعمال حفر بلا علامات، غياب تام للإشارات أو الحواجز، وسائقون يدفعهم الزمن إلى تجاوز الخطر. النتيجة واحدة: كارثة بشرية لا يمكن تبريرها بخطأ فردى أو مصادفة.
ýمن المسئول؟.. فى «ضد الحكومة»؛ يتحول المحامى من انتهازى ومتواطئ صامت إلى صوت ضمير حى يحاكم حكومة بأكملها.. بعد حادث مأساوى يودى بحياة مجموعة من تلاميذ المدارس نتيجة الإهمال الحكومى.
ýأما فى حادث السنابسة، فلا تحقيق حقيقى عن سبب تعطل الإصلاحات قد اتضح أو سبب السماح بمرور المركبات رغم وضوح الخطر، أو لماذا لم تُغلق المنطقة تمامًا حتى تكتمل أعمال التأمين.
ýالمشهد شديد التطابق لدرجة مرعبة. فالفيلم، الذى ظنه البعض تنبؤًا سوداويًا، تحول إلى نموذج مكرر فى قرى مصر المختلفة، حيث الفقراء يدفعون ثمن الإهمال، والنساء والأطفال يظلون فى مقدمة قوائم الضحايا.
ýهذا الفيلم لم يكن مجرد عمل فنى، بل شهادة سينمائية ضد فساد المؤسسات وانهيار منظومة القيم.
ýالسؤال الحقيقى هل سيحاكم أحد؟.. فى نهاية الفيلم، يقول البطل: «أنا لا أبحث عن متهم.. أنا أبحث عن الحقيقة». أما فى السنابسة، فالحقيقة واضحة منذ البداية: هناك الطريق متهالك، معروف خطره، و18 فتاة من المجتمعات الهشة قُتلن عليه. الكارثة ليست فى غموض الوقائع، بل فى وضوحها اوفى قدرة الحكومة على تجاوزها بصمت، دون وقفة حقيقية للمحاسبة أو التغيير.
ýالمشهد متكرر.. فى «ضد الحكومة»، يُصدم القطار حافلة مدرسية تمر على مزلقان غير مؤمن، ما يسفر عن مجزرة حقيقية. ورغم أن هذا المشهد كان خيالًا سينمائيًا، فإن الواقع تجاوزه مرات كثيرة، كان آخرها حادث السنابسة.
ýتمامًا كما فى الفيلم، لا تكون المشكلة فى الحادث ذاته، بل فى ما يسبقه من تراكم للإهمال واللا مبالاة، واستهتار بحياة الناس، وتحايل على القوانين، وغياب المحاسبة.
«كلنا فاسدون.. لا أستثنى أحدًا».. بهذه الجملة المدوية لخص أحمد زكى الأزمة. وهى ذات الجملة التى يمكن أن تُقال اليوم، ونحن نطالع أخبار السنابسة: من المسئول؟ هل هو السائق؟ المسئول المحلى؟ أم منظومة بأكملها؟
ýأغلب ضحايا تلك الحوادث، فى الفيلم كما فى الواقع، ينتمون إلى الطبقات المهمشة: أبناء المدارس الحكومية، سكان القرى، الأطفال والفتيات المكافحات الذين لا يعرفهم الإعلام إلا حين يموتون بمأساة.
ýوالسؤال الحقيقى ما بعد الصدمة: هل يتغير شىء؟
ýفى «ضد الحكومة»، يقرر البطل مقاضاة الحكومة بأكملها، ويجعل من القضية أداة لمحاكمتها. أما فى الواقع، فهل نجد من يملك شجاعة الاعتراف بالمسئولية أم سيُكتفى بالتعويضات وتصريحات الشفقة العابرة؟
ýحين كتب بشير الديك سيناريو «ضد الحكومة»، كان يظن أنه يحذر من كارثة قادمة. أما اليوم، فالواقع نفسه يكتب سيناريوهات أكثر قسوة، وأكثر تكرارًا. الحادثة التى وقعت فى السنابسة ليست مجرد مأساة عابرة، بل صرخة من قلب الريف المصرى المهمل: إن لم تُحاسب الحكومة نفسها، فستظل الضحايا تتبدل، ويبقى «طريق الموت» مجرد عنوان جديد فى أرشيف قديم.