رحل السيناريست الكبير عاطف بشاى أوائل هذه الأسبوع دون أن يجد التكريم الذى يستحقه، فقد انتمى الراحل إلى طائفة من المؤلفين ترى فى الدراما فعلا من أفعال التنوير، ووعى الراحل على امتداد تجاربه واختلافها حجم وتأثير الثقافة التلفزيونية كفن جماهيرى على تشكيل رؤى الناس وأفكارهم؛ لذلك مارس مهنته بمسئولية نادرة شأن زملائه الكبار فى هذه المهنة من أمثال وحيد حامد ومحسن زايد وأسامة أنور عكاشة وكرم النجار وصفاء عامر ولينين الرملى الذين قدموا دراما ذات خطاب فكرى متماسك.
ووسط هؤلاء استطاعت أعمال بشاى التى تقترب من 50 عملا تلفزيونيا أن تصل إلى الناس ببساطة ودون نبرات خطابية مفتعلة.
وحين راجعت السيرة الذاتية التى نشرت له عقب وفاته لفت نظرى فيها إلى أنه كتب عشرات الأعمال المؤثرة التى نالت نجاحا كبيرا عند عرضها، ولاحظت كما لاحظ غيرى أن الكثير منها ارتبط بمؤلفات الكاتب الساخر أحمد رجب ذات الجماهيرية الكبيرة، كما أن غالبية إنتاجه جاء ضمن الصيغ الإنتاجية التى أتاحتها أفلام التليفزيون خلال الثمانينيات.
وقد سمحت هذه الصيغ لكتاب السيناريو وبعض المخرجين بالتجريب فى أعمال لها صبغة الدراما الاجتماعية الخفيفة التى لم تكن خالية من القيمة الجمالية والفكرية.
وعلى الرغم من أن تلك الدراما صنعت بميزانيات محدودة ونجوم كبار إلا أنها كانت واسعة التأثير ويكفيها أنها أفسحت مجالا لتناول أعمال مهمة لنجيب محفوظ مثل (أيوب) و(عندما يأتى المساء) و(أنا لا أكذب ولكنى أتجمل) التى كتبها ممدوح الليثى.
وأنتمى شخصيا إلى الجيل الذى شكلت هذه الدراما خياراته وأفكاره وأعد نفسى تلميذا فى مدرسة عاطف بشاى الذى لفت نظرى فى سنوات التكوين إلى مخاطر العمى الأيديولوجى كما جسدها فى العمل الممتع (فوزية البرجوازية) داعيا إلى أهمية الانفتاح على أفكار تتسم بالتعددية ومواجهة نموذج نمطى للمثقف أقرب إلى الكاريكاتير منه إلى الواقع.
وساعد بشاى أيضا فى تبنى مفهوم للمواطنة جدير بالانتباه، فقد كان ضد ثقافة الإقصاء والتمييز الطائفى كما أنه لم يكن وهو القبطى المثقف من أنصار خيار عزلة الأقباط بل مع تأكيد فكرة الاندماج وأهمية النظر للأقباط كمواطنين مصريين قبل أى شىء وأتصور أنه حقق نقلة كبيرة فى هذا المجال تضاف إلى ما حققه كاتب آخر هو ناجى جورج الذى كان من كتاب جريدة الأهالى البارزين وأقرب الكتاب لقلب نجيب محفوظ الذى كان يحب سخريته ويتابع أعماله باهتمام.
وحرص بشاى فى أعماله على إفساح المجال أمام تواجد شخصيات قبطية من لحم ودم فلم تكن فى الحالة المثالية التى قدمها الآخرون بل قدمها فى الحالة الإنسانية الطبيعية، كما استعمل معرفته بالمكون القبطى فى ثقافتنا للتعريف بـ الطقوس والمعتقدات والالتزامات التى تواجه المصرى القبطى فى الحياة اليومية وكلها أمور ظلت مجهولة لفترات طويلة أو كانت تعالج بكثير من الخفة لكنه نزع عن الشخصية القبطية غربتها واغترابها ومن يعود لمسلسل الرجال قادمون لا تفوته أبدا التركيبة الفريدة التى ضمت شخصية (أليس) التى أدتها ببراعة الفنانة الكبيرة أنعام سالوسة أمام الزوج الذى لعبه حسن حسنى وهو عمل تصدى فى توقيت مبكر لأزمة طلاق الأقباط.
ولا يمكن نسيان دوره المهم فى الاشتباك مع الصور النمطية المزيفة والشائعة فى تاريخنا حول الكثير من الشخصيات التى لعبت أدوارا متعددة فى الشأن العام ويكفى الفرجة على الفيلم الممتع (محاكمة على بابا) لإثبات الرؤية التقدمية والشجاعة التى امتلكها عاطف بشاى فى سخريته من دور البطل الفرد ونموذج الزعيم المستبد وهى أمور كانت تعالج بالكثير من الخفة والنمطية لكن بشاى وجد لها القالب الذى يستطيع فك شفرات النص الذى كتبه أحمد رجب وشكل معه ثنائيا متناغما لا يقل فى تأثيره عن التركيبة التى جمعت رجب مع رسام الكاريكاتير الراحل مصطفى حسين، وبفضل هذه التركيبة فضح نماذج الرشوة والمحسوبية والفساد والبيروقراطية المصرية فى العمل الطريف (الوزير جاى) وهو عمل لا يمكن نسيانه أبدا شأن الكثير من أعمال بشاى التنويرى بحق والجدير بكل تقدير.