من المعروف والمتوقع أن يكون لدى القوى الدولية الكبرى حساباتها ودوافعها وخططها الخاصة فى معالجة ظواهر الثورة والتغيير التى حدثت فى منطقتنا العربية منذ عام 2011 فيما سمى بموجات الربيع العربى، إلا أن ما يستحق مزيدا من الفحص والتقييم هو دور الأطراف العربية ذاتها وأدوار الأطراف الإقليمية المجاورة التى زادت من تأزم الأوضاع وتوسيع المواجهات المحلية مستغلة مزايا الجوار المباشر وأوضاع الأقليات العرقية والروابط الطائفية والديموغرافية العابرة للحدود بالمنطقة. ورغم تردد وتباين ردود الفعل الأولية لدى الأطراف العربية إزاء أحداث الثورة والتغيير عموما فى المنطقة إلا أن هناك تماثلا استثنائيا واضحا ظهر لدى تلك الأطراف إزاء حالتى الثورة فى كل من ليبيا وسوريا إذ سارعت أغلب الأطراف العربية – وخاصة فى منطقة الخليج – إلى مباركة خطوات الثورة فى هاتين الدولتين وأصدر مجلس الجامعة العربية قرارا بدعوة مجلس الأمن الدولى للتدخل عسكريا لفرض منطقة حظر جوى فى ليبيا بهدف منع نظام القذافى من ضرب الثوار فى بنغازى. كما أصدر مجلس الجامعة فى نوفمبر 2011 قراره الشهير بتعليق مشاركة الوفود السورية فى اجتماع الجامعة العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها. وقد ثبت فيما بعد خطأ تلك القرارات العربية المتسرعة حيث أدى تغييب سوريا عن الجامعة إلى قطع جسور التواصل مع سلطات النظام القائم فى دمشق وإهدار فرص التأثير على توجهاته وقراراته وهو ما أتاح لإيران وبعض القوى العربية المتحالفة معها الانفراد بالتأثير وتوسيع جبهات المواجهة الميدانية فى أنحاء عديدة من المدن السورية وإضفاء طابع طائفى على كثير من تلك المواجهات (بلغ عدد الجماعات والتنظيمات الإسلامية العاملة فى سوريا نحو ألف جماعة وتنظيم منها «جبهة تحرير سوريا الإسلامية بقيادة أحمد عيسى» والتى تضم نحو 20 مجموعة أهمها لواء الإسلام، ولواء التوحيد، وصقور الشام، ومجلس ثوار دير الزور إلى جانب «ألوية الفاروق» بقيادة أسامة جنيدى والتى تضم نحو 140 ألف جهاديا يتمركزون فى حمص ومنطقة المعبر بين سوريا وتركيا، فضلا عن «جيش الإسلام» الذى تشكل فى سبتمبر عام 2013 من نحو 20 فصيل فى دمشق وضواحيها بقيادة زهران علوش، «وجبهة النصرة الإسلامية» التى أسسها أبو بكر البغدادى زعيم داعش وما انشق عنها من تنظيمات وألوية بقيادة محمد الجولانى، فضلا عن «حركة أحرار الشام الإسلامية» بقيادة حسان عبود والتى تضم نحو خمسة عشر ألف مقاتل فى إدلب).
ومما زاد الطين بللا إقدام تركيا على التدخل عسكريا فى عدد من المدن السورية الشمالية وبعض المناطق التى تنشط فيها الجماعات الكردية المسلحة. ويفسر البعض هذا التدخل التركى بأنه حق مشروع لحماية الأراضى والحدود التركية من تأثير العمليات العسكرية داخل الأراضى السورية والتحسب من احتمالات إقامة دولة كردية موحدة تضم مناطق الأكراد فى كل من جنوب تركيا وشمال سوريا والعراق، ويزيد البعض فوق ذلك أن هناك طموحات سياسية واسعة لدى الرئيس أردوغان يسعى فيها إلى إحياء الخلافة العثمانية مرة أخرى وإعادة سيطرة الجيش التركى على تلك المناطق السورية والعراقية المجاورة والتوسع بعد ذلك نحو شمال الجزيرة العربية ومنطقة نهر الأردن وخليج العقبة وربما إلى بعض المناطق الأخرى فى الخليج العربى والبحر الأحمر.
***
وأما فى ليبيا فقد اقتصر التدخل الدولى المطلوب من جانب الجامعة العربية على تدخل حلف الأطلنطى الذى اكتفى بالقضاء على شخص القذافى دون أن يتبع ذلك خطوات أخرى للحفاظ على تماسك مؤسسات الدولة ووحدة التراب الوطنى وتأمين الموارد والحدود والمواطنين. كما أدى الفراغ الأمنى والعسكرى الذى ساد بعد سقوط النظام وضعف حكومات محمود جبريل وعلى زيدان وعبدالرحيم الكيب إلى تعدد حالات التمرد على مؤسسة الجيش الوطنى وتشكيل العديد من الميليشيات المسلحة فى أنحاء متفرقة من ليبيا، كما تنامت بغير ضوابط سلطات ما يسمى «بمجالس شورى الثوار» فى العديد من المدن والمناطق الاقتصادية الحيوية، وتضاعفت أعداد العائدين إلى ليبيا من أعضاء ما يعرف بمنظمات الجهاد الإسلامى والجماعة الإسلامية وحزب التحرير الإسلامى وأنصار الشريعة الذين كانوا قد فروا خارج البلاد تحت وطأة نظام الحكم السابق. كما ظهرت خلال مراحل لاحقة أعداد من قيادات وأعضاء تنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى وتنظيم الدولة الإسلامية الوافدين من العراق والشيشان وسوريا وبذلك تعرضت أركان السلطة والسيادة الوطنية الموحدة فى مجموع التراب الليبى إلى تآكل خطير مما أدى إلى تعريض حياة المواطنين وأعضاء الجاليات المصرية والعربية والأجنبية إلى أخطار عديدة، كما تفاقمت ظواهر الهجرة غير الشرعية للأفارقة عبر السواحل والمياه الإقليمية الليبية.
وأمام عجز النظام الإقليمى العربى عن التحرك جماعيا لإنقاذ ليبيا وفشل المبعوثين العرب الذين تم اختيارهم لحلحلة الأزمة الليبية فى بعض المراحل كان من الطبيعى أن تسعى الدول العربية المجاورة مباشرة لليبيا إلى أن يكون لها مقارباتها الخاصة حيث اجتمع وزراء خارجية مصر وتونس والجزائر فى العاصمة التونسية فى شهر مارس 2017 وأصدروا بيانا دعوا فيه إلى تحقيق مصالحة شاملة بين جميع الليبيين دون إقصاء لأى فصيل مهما كانت انتماءاته وأن تتم هذه المصالحة من خلال حوار ليبى ليبى على أرضية التمسك بوحدة ليبيا وسيادتها والحفاظ على جيشها ورفض أى حل عسكرى وأى تدخل خارجى فى الشئون الليبية الداخلية والعمل على تذليل العراقيل التى تواجه تنفيذ اتفاق الصخيرات. ورغم إيجابيات هذا البيان الثلاثى إلا أنه خلا من آليات وإجراءات ومعايير محددة لتنفيذه وهو ما أدى إلى انفراد كل من الدول الثلاث التى أصدرته باتخاذ إجراءات خاصة بها لحماية حدودها ومصالحها فى ليبيا ومعها، كما أدى إلى قيام بعض القوى الليبية المحلية باختيار واستدعاء حلفاء لها من خلال الدائرة العربية (روسيا وتركيا وفرنسا على سبيل المثال).
الدور الإسرائيلى
وإذا كان انخراط كل من إيران وتركيا فى أحداث الربيع العربى يمكن أن يفهم فى إطار طبيعة العلاقات التاريخية والاعتبارات الديموغرافية والصراعات التقليدية بين السنة والشيعة فإن الدور الإسرائيلى فى التعامل مع موجات الثورة والتغيير داخل المنطقة العربية قد يحتاج إلى مزيد من الفحص والتدقيق وخاصة على ضوء التراجع التدريجى الملحوظ أخيرا لمركزية القضية الفلسطينية فى جدول الشواغل العربية والدولية بالإضافة إلى تنامى الدور الإيرانى بما يحمله من دعاوى خومينية لتغيير المنطقة والعالم والتى استقطبت عددا من القوى السياسية المؤثرة داخل كل من العراق ولبنان واليمن والبحرين. والملاحظ فى هذا الشان أن إسرائيل أخذت فى تطوير استراتيجياتها الأمنية والعسكرية بما يجعل إيران وحلفاءها من القوى العربية المحلية العدو الأول لإسرائيل، كما نجحت فى تصوير هذا العدو الجديد باعتباره عدوا مشتركا لها ولدول الخليج العربى الأخرى، وعدوا محتملا لباقى الدول العربية وبقية دول العالم. ومن غير المستبعد أن تسعى إسرائيل فى المرحلة المقبلة إلى تطبيع علاقاتها مع الدول العربية القريبة جغرافيا لإيران وربما تشكيل تحالف أمنى مع تلك الدول تمهيدا لمواجهة محتملة مع إيران.
وأمام هذه التطورات المحتملة قد يكون من الضرورى إجراء مراجعات عربية جادة ومسئولة وشاملة بهدف تحديد الرؤى والمواقف وردود الفعل، وقد يدخل ضمن تلك المسئوليات أيضا إجراء حوار عربى عاجل مع كل من إيران وتركيا لمنع تفاقم المواجهات وتجنب إشعال المنطقة بنيران حروب جديدة قد لا تبقى على شىء واحد فى مكانه. وقد يستدعى الأمر أيضا قيام الدول العربية بعدة خطوات أخرى من بينها على سبيل المثال:
• التحضير سياسيا وقانونيا لكيفية إعادة سوريا إلى مقعدها الطبيعى داخل المنظومة العربية والاستفادة بخبراتها المكتسبة فى مجال محاربة الإرهاب.
• الإسراع فى اتجاه إنشاء جهاز عربى يتخصص فى إعادة إعمار ما تخلفه الحروب الأهلية من تدمير للبنى التحتية وإعادة إنعاش خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية لصالح تلك المناطق.
• تمكين قوى ومنظمات المجتمع المدنى فى الدول العربية من تطوير أنشطتها لتشمل أدوارا فى مجالات المصالحة الاجتماعية، وإعادة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم الأصلية، وتعبئة المساعدات الإنسانية والغذائية وتوجيهها إلى المناطق الأكثر احتياجا.
مساعد وزير الخارجية للشئون العربية سابقا