لماذا نتخلف عن العالم؟! - علاء الأسواني - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 7:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا نتخلف عن العالم؟!

نشر فى : الإثنين 4 مايو 2009 - 6:13 م | آخر تحديث : الإثنين 4 مايو 2009 - 6:13 م

 فى شارعنا جامع ومطعم للكباب.

صاحب مطعم الكباب معروف بتدينه البالغ، فهو قد حج إلى بيت الله أكثر من مرة وأدى العمرة مرارا، وهو يغلق المطعم فى أوقات الصلاة فيمتنع تماما عن البيع ثم يؤم العاملين عنده فى صلاة الجماعة، وهو يشترط التدين فى كل من يعمل لديه، العاملون جميعا منتظمون فى الصلاة، على جباههم علامة السجود وهم يبدأون المكالمات التليفونية قائلين «السلام عليكم» ويضعون كلمة «إن شاء الله» فى كل جملة ينطقون بها، أما العاملات فهن جميعا محجبات يرتدين الزى الشرعى الفضفاض.. يتولى صاحب المطعم أيضا الإنفاق على الجامع من جيبه الخاص وهو يخصص مبلغا كل فترة من أجل تجديد الجامع وطلائه وشراء الحصير والمراوح الكهربائية وكل ما يلزم المصلين.. كل هذا جيد بالطبع ولا أعتراض عليه.

لكن الغريب أن هذا التدين الشديد لا يمتد أبدا إلى طريقة العمل فى المطعم. فالأسعار مبالغ فيها، تصل إلى ضعف الأسعار فى المطاعم الأخرى. واللحم يتم وزنه قبل الشواء على قطعة سميكة جدا من الورق المقوى تؤدى بالطبع إلى أن يحصل الزبون على قطعة لحم أقل من التى دفع ثمنها، بالإضافة إلى مخالفات أخرى سجلتها الأجهزة الرقابية واستطاع الحاج دائما أن يفلت منها بعلاقاته وإكرامياته.

المفارقة هنا بين حرص صاحب المطعم على أداء فروض الدين واستيفاء مظاهره، وتلاعبه فى الوقت نفسه فى الأسعار والأوزان.. وهو بالضبط ما يستحق التأمل.. فهذا الحاج ليس منافقا بالمعنى التقليدى، وهو لا يحس بأنه متناقض فى تصرفاته، وعدم أمانته مع زبائن المطعم لا تخدش أبدا إحساسه بالتقوى.. وهو يكسب، بفضل المغالاة فى الأسعار والتلاعب، أموالا طائلة من المطعم يقتطع منها جزءا بسيطا يتصدق به على الفقراء وينفق منه على الجامع ويعتبر بعد ذلك أنه قد أدى واجبه الدينى كاملا فينام قرير العين مرتاح الضمير.. والحق أن هذا الفهم للدين سبب رئيسى فى تخلفنا عن العالم.. فقد استبدل الحاج الكبابجى بمبادئ الدين الحقيقية تدينا شكليا مريحا لا يكلفه موقفا جادا ولا تضحية حقيقية.. فالدين الحقيقى يدعو إلى العدل والأمانة. لكن إدارة المطعم بأمانة ستؤدى به إلى خسارة كبيرة فى الأرباح، بينما التدين البديل لا يكلف شيئا لأنه يقف عند الشكل والعبادات، يبدأ وينتهى عند الحجاب وصلاة الجماعة والصيام وأداء الحج والعمرة.

هذا الانفصال التام بين العقيدة والسلوك ظاهرة مرضية انتشرت فى مصر على نطاق واسع. هناك آلاف وربما ملايين المصريين يرون الدين بنفس طريقة صاحب المطعم والأمثلة كثيرة، نواب الحزب الوطنى الذين يحصلون على مقاعدهم فى البرلمان بالتزوير والبلطجة، كتبة الصحف الحكومية الذين ينافقون الرئيس مبارك كل يوم، الطلبة الذين يمارسون الغش فى الامتحانات العامة، المقاولون الذين يغشون فى خامات البناء مما يؤدى إلى انهيار العمارات وقتل سكانها، ضباط الأمن الذين يعذبون الناس وينتهكون كرامتهم وأعراضهم، أساتذة الجامعة الذين يقومون بتزوير النتائج من أجل منح أولادهم درجات لا يستحقونها حتى يتم تعيينهم كمعيدين بغير حق.. كل هؤلاء، أو معظمهم، مسلمون ومسلمات يمارسون التدين البديل فيقتصرون الدين على المظهر والعبادة دون السلوك والمعاملات..

والحق أن التدين البديل يلحق أضرارا جسيمة بالفرد والمجتمع.. فهو يمكن الناس من ممارسة خداع الذات مما يدفعهم إلى ارتكاب أشياء مشينة بضمير مستريح لأنها لا تخالف ضميرهم الدينى الزائف.. والتدين البديل يعطل ملكة التفكير والإبداع لدى الإنسان لأنه يستند فى كل ما يفعله ليس إلى عقله واختياره الحر وإنما إلى النص الذى لا اجتهاد فى وجوده. والمتابع للأسئلة التى يمطر بها المشاهدون شيوخ الفضائيات لابد أن يندهش من سذاجة الموضوعات: رجل تعود أن يجامع زوجته أمام المرآة يتساءل: هذا حلال أم حرام؟.. سيدة استدانت وكتبت على نفسها شيكات ضاعت من الدائن.. وهى تسأل الشيخ إن كانت ملزمة شرعا برد الدين بعد ضياع الشيكات التى تثبته.. والسؤال هنا: هل يحتاج الإنسان حقا إلى فتوى ليعرف أن واجبه أن يؤدى ديونه إلى مستحقيها، وأن يحسن معاملة زوجته وينفق على أبنائه وأن يعطى إخوته البنات حقهن فى الميراث..؟ هل تحتاج هذه التصرفات الإنسانية البسيطة إلى فتاوى من الشيوخ؟!.. التدين البديل يقضى على كل نشاط عقلى مبدع ويحيل الإنسان إلى آلة لتنفيذ التعليمات الدينية فيما يخص الشكل والشعائر.

مشكلة أخرى تنتج عن التدين البديل أنه كما يفصل السلوك عن العقيدة فهو يفصل أيضا الهم الخاص عن الشأن العام.. فالمتدين البديل لا يرى العلاقة بين ما يحدث لأسرته وبين ما يحدث فى البلد كله.. فلو أنه يعانى من الفقر مثلا سيعتقد أن السبب فى فقره هو واحد من اثنين: إما ابتلاء من الله يجب عليه أن يتحمله بلا تذمر أو اعترض، وإما عقاب إلهى هو يستحقه على ذنوب ارتكبها.. لكنه نادرا ما يفكر أن الفقر الذى يئن من وطأته ليس إلا نتيجة موضوعية لفشل سياسات الحكم أو فساده.. وهو بهذا التفكير يعفى النظام السياسى من أى مسئولية عن أفعاله.

والمتدينون البدلاء ليس لديهم أقل اهتمام بالشأن العام.. ولو أنك حدثت أحدهم عن تزوير الانتخابات أو التوريث أو حقوق الإنسان. فإنه غالبا سيندهش جدا لاهتمامك بمثل هذه الموضوعات، التى لا ينشغل بها فى رأيه سوى شخص فارغ ليس لديه ما يشغله، أما الإنسان المحترم فى رأيه، فيجب أن يقتصر اهتمامه على أكل عيشه. أضف إلى ذلك أن التدين البديل يعتمد دائما القراءة السلفية الوهابية للدين التى توجب طاعة الحاكم وتحرم الخروج عليه حتى وإن ظلم الناس وسرق أموالهم، من هنا فإن التدين البديل، للأسف، يجعل المسلمين أكثر قبولا للظلم وأكثر استعدادا لتحمل الاستبداد. ولا أبالغ إذا قلت إنه لولا انتشار هذا التدين الزائف لتمرد المصريون على نظام الحكم من سنوات ولتغيرت الحياة فى بلادنا إلى الأفضل.. ولأن التدين البديل بطبيعته يدعم الاستبداد فإن النظام فى مصر يحرص من ثلاثين عاما على نشر هذا النوع من التدين بكل الطرق الممكنة..

وليس من قبيل الصدفة أبدا تلك المساحة الإعلامية الكبيرة الممنوحة لفقهاء معينين من الحكومة ليشغلوا الناس بقشور الدين دون جوهره. ولعلنا نفهم الآن لماذا يستعمل النظام آلته القمعية الجبارة لسحق الإخوان المسلمين (الذين يسعون إلى الحكم) وفى نفس الوقت يعطف على الحركة الصوفية ويسمح لها بتنظيم مؤتمرات يحضرها عشرات الآلاف.. لأن الصوفيين يعلنون دائما أن طاعة الحاكم واجبة فى كل الأحوال وأن ما يصيبنا من مشكلات وأزمات ليست أبدا بسبب الحاكم وإنما بسبب سوء نفوسنا وبعدنا عن الدين.

السؤال: ما العمل.؟!. الحق أنه يجب أن نفصل تماما بين مبادئ الدين الحقيقية: الحق والعدل والمساواة والحرية.. وبين تدين شكلى زائف يختصر الدين فى الشكل والشعائر.. فى مصر الآن معركتان، معركة من أجل الإصلاح الديمقراطى حتى ينتزع المصريون حقهم الطبيعى فى اختيار من يحكمهم، ومعركة أخرى من أجل تحرير الدين من الخزعبلات والجهل والنفاق والأشكال الكاذبة.. المعركتان متوازيتان ومتساويتان فى الأهمية.. لأننا لن نستحق الديمقراطية أبدا إذا ظللنا نختصر الدين فى الجلباب والحجاب ولأننا بالديمقراطية وحدها سوف نتحرر ونستعيد قدرتنا على التفكير فنرى بوضوح الفرق بين الدين الحقيقى والتدين الزائف البديل.

الديمقراطية هى الحل

علاء الأسواني طبيب أسنان وأديب مصري ، من أشهر أعماله رواية عمارة يعقوبيان التي حققت نجاحا مذهلا وترجمت إلى العديد من اللغات وتحولت إلى فيلم سينمائي ومسلسل تليفزيوني ، إضافة إلى شيكاجو ونيران صديقة ، وهو أول مصري يحصل على جائزة برونو كرايسكي التي فاز بها من قبله الزعيم الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا ، كما أنه صاحب العديد من المساهمات الصحفية.
التعليقات