انتفاضة الإسكندرية - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 1:05 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انتفاضة الإسكندرية

نشر فى : الإثنين 4 يوليه 2022 - 7:45 م | آخر تحديث : الإثنين 4 يوليه 2022 - 7:45 م
معظم الشعب المصرى يعرف مذبحة دنشواى سنة 1906 التى حكمت فيها المحكمة بإعدام أربعة من الفلاحين وسجن وجلد ستة وثلاثين فلاحا آخرين، بعد وفاة ضابط بريطانى بضربة شمس فر مذعورا إثر اشتعال النار فى أجران القمح أثناء قيامهم بصيد الحمام وخروج الفلاحين لإنقاذ محصولهم، فأطلق عليهم الإنجليز النار وقتلوا ستة منهم. لم تسأل المحكمة الضباط والجنود الإنجليز على مقتل الفلاحين، ولعل الأبشع فى الرواية هو موقف ممثل الادعاء المصرى إبراهيم الهلباوى الذى كان أول نقيب للمحامين الذى وصف أهالى دنشواى «بالسفلة أدنياء النفوس الذين قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصى والنبابيت وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز بيننا خمسة وعشرون عاما ونحن معهم فى إخلاص واستقامة»! هكذا يفعل الاحتلال بنفوس البعض.
قصة معروفة درسناها فى كتب التاريخ فى المرحلة الإعدادية، وكتب عنها أمير الشعراء أحمد شوقى قصيدة مطلعها «يا دنشواى على رباك سلام ــ ذهبت بأنس ربوعك الأيام».
• • •
أما انتفاضة الإسكندرية فقليل من سمع بها ويعرفها. تفجرت الانتفاضة فى يوم 21 مايو سنة 1921 واستمرت لعدة أيام.
كانت الساحة فى مصر فى هذا الوقت ملتهبة التهابا شديدا، وما زالت تعيش فى أجواء ثورة 1919. فقد صدر تقرير لجنة ملنر وزير المستعمرات البريطانى يوم 9 ديسمبر 1920، وهى اللجنة التى شكلتها بريطانيا لمحاولة احتواء غضب الشعب المصرى بعد تنصلها عن تحقيق استقلال مصر ورفضها مشاركة وفد مصر فى مؤتمر فرساى للسلام، لتطبيق نقاط الرئيس الأمريكى ولسون الاثنتى عشرة بحق الشعوب المحتلة فى الاستقلال الذى كان سببا فى قيام ثورة 1919 ونفى سعد زغلول. سبق الانتفاضة، بأقل من شهرين عودة سعد زغلول من المنفى يوم 29 مارس 1921، وهى المناسبة التى كتب لها الشاعر محمد يونس القاضى نشيد بلادى بلادى، ولحنه سيد درويش الذى صار نشيد الثورة وصار لاحقا النشيد القومى لمصر. فى هذه الظروف وهذه الأجواء كثرت المظاهرات فى مصر تطالب بالاستقلال وتندد بالسياسيين المهادنين للإنجليز. وحاول الإنجليز السيطرة على الموقف فى مصر بالمهاودة تارة بسياسات مثل لجنة ملنر، وبالبطش تارة أخرى فأرسلت إلى مصر مندوبا ساميا جديدا هو الفيلد مارشال اللنبى، أيقونة العسكرية البريطانية الذى هزم القوات التركية واحتل القدس عشية ليلة عيد الميلاد عام 1917، وأهداها للتاج البريطانى فى وقت كانت المعنويات فى بريطانيا فى أدنى حالاتها بسبب تعثر مسيرة الحرب. أملا فى أن تحسم شخصيته العسكرية الصارمة وهيبته الموقف خوفا من أن تستفحل الثورة وتمتد إلى مستعمرات أخرى فى وقت كانت بريطانيا مستنزفة بعد الحرب.
وعقب صلاة الجمعة فى الجامع الأحمدى فى طنطا، خرج المصلون فى مظاهرة حاشدة تندد بالاستعمار وتطالب بالاستقلال. استقبل البوليس المظاهرة بالرصاص الحى، الأمر الذى أسفر عن سقوط العديد من القتلى والجرحى. وفى الجمعة التالية، انتفضت الإسكندرية تضامنا مع طنطا، فخرجت المظاهرات فى جميع أنحاء المدينة خاصة فى أقسام الجمرك والمنشية واللبان وغيرها، وسقط أثناء المظاهرات 36 قتيلا 12 منهم من الأوروبيين وأكثر من 100 جريح معظمهم أيضا من المصريين أى أن عدد القتلى المصريين ثلاثة أضعاف الأوروبيين، ورغم ذلك صورت الصحافة البريطانية ما حدث أنه مذبحة للأوروبيين فى الإسكندرية! وجرى استجواب فى مجلس العموم يطالب الحكومة بتوضيح الإجراءات التى اتخذتها الحكومة لتأمين رعايا بريطانيا وتأمين رعايا الدول الأوروبية دون الإشارة ولو لفظا لتأمين المصريين ولو ذرا للرماد فى العيون.
أمر الفيلد مارشال اللنبى بتشكيل محكمة عسكرية كلها من ضباط إنجليز دون قاضٍ مصرى واحد. وكانت هذه المحكمة مثلها مثل محكمة دنشواى علامة سوداء فى تاريخ المحاكم، عندما نزعت العدالة العصابة عن عينيها وخلعت ثوب الحياء وأسقطت الميزان من يدها.
استدعت المحكمة شهودا أوروبيين دون استدعاء شاهد مصرى واحد. فتقدم المحامى المصرى جعفر فخرى بك، وكان من كبار المحامين وهو الذى وكلته الأميرة شويكار للدفاع عن شقيقها الأمير سيف الدين الذى أطلق النار على الأمير فؤاد، وسأل المحكمة عن سبب عدم سماع شهود مصريين فردت المحكمة بأنه تم استدعاء الشهود بناء على قوائم قدمتها القنصليات الأوروبيية، ولم يقدم أحد شهودا مصريين! وأكدت المحكمة استعدادها لسماع شهود مصريين بشرط أن يكونوا حسنى السمعة غير مطعون فى مصداقيتهم، فقدم لهم فخرى بك قائمة بـ120 شاهدا لم تقبل منهم المحكمة غير عشرة شهود، وحتى هؤلاء استبعدت المحكمة عددا منهم بسبب ارتفاع أصواتهم وتلويحهم بأياديهم أثناء الكلام. سرد بعضهم روايات عن إطلاق الأوروبيين النار على المتظاهرين من نوافذ منازلهم، فاستبعدت المحكمة شهادتهم بدعوى أنها متأثرة بأساطير تدوولت منذ ضرب الأسطول البريطانى للإسكندرية سنة 1882 وثورة 1919.
حققت المحكمة مع جنود البوليس والمطافئ المصريين بتهمة أنهم أطلقوا النار على منازل الأوروبيين ولم يوفروا لهم الحماية وتقاعس رجال المطافئ عن إطفاء الحرائق فى بيوتهم. نفى الجنود هذه الادعاءات، إلا أن المحكمة رأت أن ردودهم كانت متشابهة بما يوحى بأنهم لقنوا ما قالوه، ولم يخطر ببال المحكمة أن الأقوال متطابقة لأنها الحقيقة.
حكمت المحكمة بإعدام ثمانية من المصريين وأحكام بالسجن المؤبد والسجن لمدد متفاوتة على عدد آخر من المتهمين، مما يؤكد أن العدالة ليس مصدرها كود نابليون الفرنسى أو فقه أولد بيلى الإنجليزية ولكنها فضيلة بعيدة عن الظلم والعنصرية والتعالى والمطامع الإمبريالية.
• • •
كانت انتفاضة الإسكندرية حلقة فى سلسلة النضال الشعبى منذ ثورة 1919 التى أسفرت عن إعلان 28 فبراير باستقلال مصر مع تحفظات أربعة، واستمر الكفاح وسقط مزيد من الشهداء فى مظاهرات الطلبة سنة 1935 على كوبرى عباس والتى تكررت فى نفس المكان سنة 1946، ثم كفاح الفدائيين فى منطقة القناة حتى قامت ثورة 1952 التى أنهت التواجد البريطانى والصلف الأوروبى على حساب المصريين. وأزهرت شجرة الحرية والاستقلال التى رواها عرق المجاهدين ودماء الشهداء.
صفحات سوداء طواها التاريخ عسى أن يقرأها شباب أسعدهم القدر بأنهم ولدوا وعاشوا أسيادا فى مصر الحرة المستقلة لتعصمهم من الانقياد وراء تغريدات من يحنون إلى الإسكندرية فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى بمقاهى وفنادق وكازينوهات الخواجات وحفلاتهم الراقصة وتأتى تغريداتهم وكأنها صفحات من كتاب «البحث عن الزمن المفقود» a la recherche du temps perdu للأديب الفرنسى مارسيل بروست أو كتاب الفردوس المفقود للشاعر الإنجليزى جون ميلتون.
دعونى أقول لهم عيشوا فى الزمن الموجود بعيدا عن الزمن المفقود ولا تبحثوا عن الفردوس المفقود، بل عيشوا فى رحاب الفردوس الموجود الذى بنيناه بكفاحنا وعرقنا ودمنا، ودافعوا عنه وصونوه وأنشدوا مع أم كلثوم «عيشوا كراما تحت ظل العلم ــ تحيا لنا عزيزة فى الأمم».
محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات