فوجئ الناس فى مصر، عقب تنحية حسنى مبارك عن الحكم فى فبراير 2011، بإعلان من المجلس العسكرى الذى تولى السلطة، أن انتخابات مجلس الشعب الجديد سوف تجرى فى سبتمبر، أى بعد ستة أشهر.
كان المفترض أن يكون هذا الإعلان خبرا سعيدا للجميع، إذ ما أشد شوق الناس فى مصر إلى الديمقراطية، بعد حرمان استمر ثلاثة عقود، وقد يقول البعض: بل أربعة، البعض قد يقول: بل ستة! ولكن المفاجأة كانت أن أعدادا كبيرة من المصريين المسيّسين تلقوا الخبر بالوجوم بل وببعض الخوف، إذ لابد أنهم قالوا لأنفسهم: «أى نوع من الناس يمكن أن تجلبه الانتخابات إلى مجلس الشعب، حتى بفرض أعلى درجة ممكنة من النزاهة وعدم التزوير؟».
لقد ذكرت فى مقالى السابق ثلاثة أسباب تبرر هذا التخوف من ألا تأتى الانتخابات، حتى بافتراض الحرية الكاملة فى الترشيح والانتخاب، بمن يحقق الأهداف المرجوة للوطن. ذكرت أولا الفساد وطول العهد به، وانتشاره فى مختلف طبقات المجتمع وطوائفه، وفى المدن والقرى، وفى شتى درجات الوظائف الحكومية والمجالس المحلية، مما كان من المتعذر «بل ومن غير المتصور» أن يختفى بمجرد سقوط رأس النظام، إذ لا يمكن أن يختفى الفساد إلا باختفاء أسبابه. والفساد الذى ثار عليه الناس فى 25 يناير يختلف اختلافا شديدا عن الفساد الذى قامت ضده ثورة 23 يوليو، الذى كان يكفى للقضاء عليه اقتلاع رأس النظام وتقليم أظافر الإقطاع.
الفساد الآن يعود إلى حصيلة أربعة عقود من نمو غير متوازن فى الدخل، مع نمو سريع فى السكان، وعجز عن توفير أبسط الضروريات لشرائح واسعة من الناس «بما فى ذلك توفير فرص العمل اللائق»، فى الوقت الذى تثير فيه وسائل الإعلام والانفتاح على العالم، تطلعات الناس إلى حياة أفضل، ويزداد فيه نهم الشريحة العليا من المجتمع لاستهلاك سلع لا تلبى أى حاجات حقيقية، ولكنها تنجح فقط فى استفزاز بقية شرائح المجتمع.
الفرق بين ما كنا نحتاجه لعلاج الفساد فى 1952 وما نحتاجه الآن لعلاج الفساد يشبه الفرق بين خلع ضرس، يقضى فورا على الألم، ويخلص الجسم فورا من أى خطر، وبين علاج فشل كلوى امتدت آثاره إلى مختلف أجزاء الجسم وأنهكت قواه.
فى مجتمع يتكون أكثر من نصفه من الجوعى أو المتبطلين، أو ممن اعتاد أن يكمل دخله، أو قبول رشوة كبيرة أو صغيرة، كيف يمكن إدارة منافسة انتخابية يعتمد النجاح فيها فقط على درجة إخلاص المرشح ووطنيته ونزاهتهم، ولا يعتمد على درجة ثرائه ونفوذه؟
ذكرت أيضا من أسباب التوجس ما أفرزه نفس هذا المناخ الاقتصادى والاجتماعى الذى وصفته حالا، من انتشار تفسيرات للدين بعيدة عن العقلانية، بل وقد تتخذ أحيانا صورة «الهوس الدينى» أو الدروشة، حيث تتغلب العاطفة على المنطق، وظهور ذلك فى ممارسة الحياة اليومية وفى العلاقات الاجتماعية، وفى معاملة أصحاب الديانات الأخرى، ولابد أن يظهر أيضا فى المنافسات السياسية والانتخابية. فى مناخ كهذا، كيف نتوقع مثلا أن يفضّل الناخب المسلم مرشحا قبطيا أكثر نزاهة ووطنية من مرشح مسلم، أو أن يحدث العكس فيعطى الناخب القبطى صوته لمرشح مسلم أكثر نزاهة ووطنية من منافس قبطى؟
بل ومن بين مرشحين مسلمين، أيهما أكبر فرصة فى النجاح: الأكثر حكمة أم الأكثر تطرفا؟ الأحرص على المصلحة العامة أم الأقدر على العزف على أوتار المشاعر الدينية؟
هناك أيضا سبب ثالث يتعلق بغياب الحياة السياسية الحقيقية لنحو ستة عقود، حتى كاد الناس ينسون معنى الحوار السياسى، واختفت القضايا المصيرية وحلت محلها المناقشات الأقرب إلى جدل العصور الوسطى «من نوع ما إذا كان الاحتفال بشم النسيم حلالا أم حراما» أو المناقشات حول أمور كانت مهمة منذ ستين عاما ولم تعد كذلك الآن، كتخصيص نسبة من مقاعد مجلس الشعب للعمال والفلاحين، أو ما إذا كان الأفضل تحديد حصته للمرة فى مجلس الشعب أم ترك المنافسة حرة بين النساء والرجال.. إلخ.
بينما أدى احتكار فئة قليلة للحكم إلى يأس الناس من فائدة أى عمل سياسى أو أى حوار حول الإصلاح.
فى مناخ كهذا، فقد الناس فيه عادة الحوار حول قضايا سياسية مهمة، وأصبحوا يفتقدون الزعامات السياسية الحقيقية، أى نوع من المنافسة أو المعارك الانتخابية تتوقع ظهوره عندما يفتح باب الترشيح لمجلس الشعب الجديد؟ أى نوع من البرامج السياسية يمكن أن نتوقع أن يطرح على الناس للاختيار من بينها؟ وعلى أى أساس يمكن أن يقارن الناس بين مرشح وآخر عندما تكون البرامج متشابهة أو غير واضحة وغير محددة المعالم «كأن يكتفى مثلا بالدعوة إلى العدالة الاجتماعية، كأن أحدا يريد الظلم الاجتماعى»؟
●●●
شعر كثيرون بأن هناك مشكلة حقيقية، وأنها لن تحل مجرد إجراء انتخابات نزيهة، ولكنهم شعروا أيضا بأنهم لا يمكن أن يتنكروا للديمقراطية، بينما العالم كله يعتبر الآن أن «الديمقراطية هى الحل»، وأن أفضل السبل لحل أى مشكلة، أيا كانت، أن ترجع إلى رأى الأغلبية فتجد الحل الصائب. هكذا يقول الجميع والرد عليهم ليس سهلا. وجد البعض الحل فى أن يقترحوا تأجيل الانتخابات، فاعترض أنصار التيار الدينى قائلين: «ولماذا التأجيل؟ ألا يعجبك ما يختاره الناس؟». واقترح البعض أن يستمر المجلس العسكرى فى الحكم لمدة سنة أخرى أو سنتين، أو أن يشكل مجلس رئاسى يضم بعض العسكريين وبعض المدنيين، فاعترض أنصار الديمقراطية قائلين: أتفضلون ديكتاتورية عسكرية على الديمقراطية، لماذا قامت الثورة إذن؟
المشكلة عويصة، والتأجيل أو تكوين مجلس رئاسى لن يحل المشكلة، بل فقط سيؤجل حلها. والحالة تشبه فى نظرى حالة مريض بمرض خطير اكتشفت خطورته لحسن الحظ فنقل إلى المستشفى. ولكن انقسمت بعد ذلك الآراء: فريق يريد عودة المريض إلى بيته فى أقرب فرصة، بعد بعض الإسعافات العاجلة، بزعم أن رعاية أهله له أفضل من أى معاملة يمكن أن يلقاها فى المستشفى والبعض يريد أن يطيل بقاء المريض فى المستشفى أطول مدة ممكنة، خوفا من جهل الأهل بأصول الرعاية الصحية، ولكنهم لا يريدون الاعتراف بأن المريض لن ينقذه إلا عملية جراحية، وهى عملية خطيرة. فما هى هذه العملية الخطيرة التى يتطلبها الإصلاح السياسى فى مصر؟
أريد أن أذكر القارئ بقضية قديمة دار حولها جدل طويل فى الفكر السياسى ترجع بدايته إلى أكثر من قرنين كاملين، إذ أثاره قيام الثورة الفرنسية فى أواخر القرن الثامن عشر، وفجّره بقوة الفكر الماركسى فى منتصف القرن التاسع عشر، ثم انقسم حوله أنصار وأعداء الثورة الروسية فى مطلع القرن العشرين، واستمر يشكل جزءا أسياسيا من الفكر السياسى حتى اتضح الضعف الشديد الذى أصاب التجربة الاشتراكية فى الاتحاد السوفييتى، ثم بدا وكأن هذا الموضوع قد تم حسمه بسقوط دولة بعد أخرى من الدول الاشتراكية وأخذها بصورة أو أخرى من صور الديمقراطية الغربية.
أقصد بهذا قضية العلاقة بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية.
لقد أنهت الثورة الفرنسية عصرا طويلا من الحكم الاستبدادى الذى كان الملك فيه يعتبر نفسه ويعامل من الناس على أنه «ظل الله فى الأرض»، ودشنت عصرا من الحرية السياسية التى تقوم على حرية الترشيح والانتخاب.
ولكن الاشتراكيين قدموا اعتراضا بالغ القوة على تطبيق الديمقراطية السياسية فى مجتمع لم يحقق بعد «الديمقراطية الاجتماعية»، وأشبع كارل ماركس وأنصاره، الديمقراطية السياسية التى لا تقترن بتوزيع عادل للدخل، سخرية واستهزاء، فاعتبروا ديمقراطية الثورة الفرنسية «من طرائف البورجوازية»، وقالوا إن مثل هذه الديمقراطية لن يفيد منها إلا أصحاب القوة الاقتصادية، بينما سوف تقتصر حرية العامل الفقير أو الفلاح الفقير على حرية الاختيار من قبول الخضوع لاستغلال الرأسمالى أو الإقطاعى، وبين الموت جوعا.
هكذا برر لينين وستالين ديكتاتورية البروليتاريا فى الاتحاد السوفييتى لفترة تقرب من سبعين عاما: الجوع يفسد الديمقراطية، ولا معنى للحرية السياسية إذا لم تقترن بالفضاء على التفاوت الطبقى «أو على الأقل التخفيف الشديد منه»، وهكذا دافعت عن نفسها كل نظم الديكتاتورية التى سمت نفسها اشتراكية فى العالم الثالث، من ديكتاتورية كاسترو فى كوبا، إلى ديكتاتورية ماوتسى تونج فى الصين، مرورا بدول كثيرة فى أفريقيا وآسيا، ومن بينها ديكتاتورية جمال عبدالناصر فى مصر.
عندما انقلب أنور السادات على نظام عبدالناصر ففتح الباب شيئا فشيئا لصور مختلفة من الاستغلال، كان دفاعه عن نظامه الجديد يستند إلى ما أتاحه من حريات سياسية وحرية التعبير مما لم يكن متاحا فى ظل عبدالناصر. واستمر نظام حسنى مبارك يطبق نفس سياسة السادات: ديمقراطية سياسية مزيفة مع ظلم اجتماعى فاحش. وكانت النتيجة هى ما بدأت به هذا المقال: جسم عليل للغاية، يعانى من استفحال الفساد والفقر واللا عقلانية وفقدان الوعى. فهل ينحصر «العلاج، والحال بهذه الدرجة من الخطورة، فى إجراء انتخابات حرة ونزيهة؟».
●●●
إنى أشك جدا فى أن يكون الحل بهذه البساطة. إنى لا أعرف ثورة ناجحة فى التاريخ كان كل ما فعلته هو تنحية الحاكم وحل مجلس الشعب ثم إجراء الانتخابات ليأتى حاكم جديد وبرلمان جديد. فما بالك إذا كان هذا الحاكم الذى جرت تنحيته قد حكم البلاد مدة ثلاثين عاما أفسد فيها كل شىء، وزور كل الانتخابات، ولم ير أكثر من نصف السكان حاكما غيره؟ إن أبسط ما ننتظره من الثورة أن يقوم الثوار أو من يتولى الحكم باسمهم، بمجرد استيلائهم على الحكم باتخاذ بعض الإجراءات وإصدار بعض القوانين التى تتفق مع الأهداف التى قامت الثورة من أجلها، وتمنع استمرار ما قامت الثورة بالقضاء عليه.
إنى لا أقصد إرساء قواعد تفصيلية لنظام اقتصادى جديد، فهذا لا يتحقق بإجراء سريع أو بإصدار قانون فورى، وإنما أقصد الإجراءات والقوانين التى تعالج العوامل الثلاثة التى ذكرتها فى بداية هذا المقال، التى تهدد فرصة حصولنا على مجلس للشعب قادر حقا على تحقيق آمال الناس فى نهضة حقيقية: أى القضاء على الفساد «وأهم أسبابه شراء السلطة بالمال»، ومنع استغلال المشاعر الدينية لتغليب مرشح على آخر، وإفساح أكبر مجال للتعبير الحر عن الرأى، ولكن مع حماية حرية الرأى من سطوة المال ومن استغلال العواطف الدينية.
إن مراعاة هذه الشروط الثلاثة، بإعلان بعض المبادئ التى تعبر عنها قبل إجراء انتخابات لمجلس الشعب، وباتخاذ بعض الإجراءات وإصدار بعض القوانين التى تضمن تحققها، وهى التى تضمن ألا يأتى تحقيق الحرية السياسية على حساب الحرية الاقتصادية، ومن ثم تفقد الديمقراطية السياسية مضمونها ومغزاها، ويخيب الآمال المعقودة عليها.
إن عدم مراعاة هذه الشروط الثلاثة حتى الآن هو فى رأيى أحد الأسباب الأساسية فى أن الستة أشهر التى انقضت على قيام ثورة 25 يناير، أصابتنا بدرجة كبيرة من خيبة الأمل. فتأخير محاكمة رموز العهد السابق لم يبعث الخوف اللازم فى نفوس أنصارهم من المسئولين عن إشاعة الفساد فى مصر، فضلا عن الأخطاء المتكررة فى اختيار مسئولين جدد، والإصرار، المرة بعد الأخرى، على التمسك بأشخاص تورطوا فى الفساد فى العهد السابق، ثم السماح باستغلال العواطف الدينية فى وسائل الإعلام، مع تخبط واضح فى السياسة الإعلانية، من تأخر غير مفهوم فى تغيير القيادات الإعلامية، إلى اختيارات باهتة لقيادات جديدة لا تعكس الأهداف الحقيقية للثورة، بل وربما لا تؤمن بها أصلا.
إن هناك سببا حقيقيا إذن للخوف، من ألا تسفر ثورة يناير عن أى تقدم يذكر فى تحقيق الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم فى تحقيق الحرية السياسية الحقيقية، بل أن تأتى لنا بحريات سياسية صورية، لها شكل الديمقراطية وحقيقة الديكتاتورية.