الضمير - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 7:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الضمير

نشر فى : الجمعة 6 يوليه 2018 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 6 يوليه 2018 - 9:05 م

تدور النقاشاتُ، وتفرض وجودَها الأزماتُ، ويستعرض بعضُ الجالسين حلولًا؛ فيفنّدها الآخرون حلًا وراء حلّ، ويطرحون بدائلَ لا تلقى بدورها القبول، ولا يتبقى بعد طولِ كلامٍ، سوى الرجوع إلى ما ليس عليه خلاف؛ يتبرع رجلٌ أو امرأة بوضع نُقطة النهاية، صائحًا أو صائحةً بالحِكمة الأثيرة: "لو كان عند الناس ضمير، ما وصلنا اليوم إلى ما نحن فيه".
يأخذ الضمير مساحةً مُترامية مِن الحوار، يصول فيها المُتجادلون ويجولون. المَفهوم قديم قِدم الدهر، والشجون بصدده مُتجددة، وأوجاع الواقع تستدعي ما في الأحشاء. الضمير كما يدرك الناس منذ بدء الخليقة؛ لا يكفي وحده لضمان حياة آمنة عادلة، لا يمكن الاعتماد على قوته ونصاعته في نفوس البشر أجمعين؛ لبناء عالم مثاليّ، ومِن أجل هذا وُضِعَت القوانينُ، وصكَّت اللوائح ودبجت التشريعاتُ، صيغت كلها في الأصل؛ كي ترتق الثغراتِ التي يصنعها غيابُ الضمير.
***
بمرور الوقت أُضيفَت قواعد وقيود لا حصر لها، وتعاظمت أغراضُها؛ فلم يعد لتنظيم المعيشة، وترتيب شئون البشر أولوية صريحة؛ فقد احتلت مصالح الحاكمين -التي لا بد مِن تحقيقها- المرتبةَ الأولى.
نَمَت المَنظومةُ التشريعية بما يخدم السلطانَ، وتشعَّبت فروعها إلى أن صارت كما الأحراش؛ واسعة، مُتشابكة، كثيفة، تختبئ الضواري فيها وتتحفَّز الكواسِر، ولا ينجو مِن فخاخِها إلا مَن كفلته يدُّ العناية العليا، وحفظت حظوظَه في الدنيا.
قال واحد مِن المُتحدثين إننا نعيش مرحلةَ انقراض الضمير، وإن ما يلحق بنا مِن نكبات؛ سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، مَرَدُّه سقوط ضمائرنا وانسحاقها، بل وتبددها كالغبار الناعم في الهواء. قال إن الحكومة لا ذنب لها ولا يدّ فيما صرنا إليه؛ هي منّا ونحن منها؛ نسرق ونكذب ونرتشي، وتفعل هي المثل، نختلق مُسمَّيات خفيفة لطيفة لجرائمنا، وتفعل هي المثل، نبرر مصائبنا بما يرفع عنا الحرج، وتفعل هي المثل. السُلطة الحاكمة منا وفينا؛ لا يصح أن نلومَها، أو أن نلقي بأوزارنا علي أكتافها ونحمِّلها العبء.
***
تذكرت قولًا شبيهًا، دافع به صديقٌ عن مؤسسة دينية عريقة، حين تورطت في مواقف لا تليق بها. ذكر الصديقُ أن المؤسسةَ جزءٌ مِن مُجتمَعٍ مريض، وبالتالي هي أيضًا مريضة؛ لا يجب علينا انتقادها، أو مُحاسبتها وفقًا لمعايير صارمة نقية، ولا يجوز عليها في ظل تعقد الظروف؛ إلا طلب الرحمة والمَغفرة. رددت حينها بأن الحكومة الرشيدة في أي مكان وزمان، وسواء كانت مُمَثلة في فردٍ أو كيان، لا تُعرَف باتباعها السائد مهما كان، ولا بانصياعها لمساوئ عصرها والانخراط فيها، بل مُهمتها أن تصلح الأحوال، وأن تؤسس نظامًا أكثر نبلًا وإنسانية، وأن ترسي مبادئ الحرية والمساواة والإنصاف؛ فإذا حققت فشلًا تلو الآخر، وفاقمت مِن سوء الحال؛ ما استحقت مكانتها، وما جازت لها الأعذار والمُبررات. يُملي عليها الضمير اليقظ في تلك اللحظة أن تُخليَ موضعها، وأن تُفسح الطريقَ لقيادة جديدة؛ فإذا عَجَز الضمير أو تنحَّى جانبًا، جاء دور الناس.
***
بين تعريفات الضمير المتعددة، وتفسيرات الأفول المشين المتباينة، احتد فريقان؛ لا يكتفيان بعرض ما يعتقدان فيه، بل يسعيان لتتويجه صوابًا وحيدًا. لم يعد احتفاظ المُتقارعين كلٌّ بهدوئه وثباتِ انفعالاته أمرًا هينًا بسيطًا؛ حتى مع استبعاد التفصيلات التي قد تستفز مشاعر الغضب، والتركيز على المفاهيم العامة وكبريات العناوين. ليس الضمير بمادة للعِراك في الظروف العادية؛ لكنه قد يصبح كذلك حين يتسيد الأمزجةَ الاحتقانُ، وتضيق الصدور بتوافه الأشياء، ويغدو الجدلُ الفكريُّ ترفًا لا يتحمله المقهورون. لا أقل في هذه الحال مِن أن تتطاير الاتهامات، وتصل إلى التشكيك المُتبادل في سلامة الضمائر، ثم الإدانة بتطويعها حسب الاحتياج، أو بتسكينها وتخديرها ما لزم الأمر.

مع كُل ضربة جديدة؛ تضيق الأرض وتختنق الأنفاس. مع كُل خطوة تستهدف سحقَ الكتلة العظمى مِن البشر، وطردها لما بعد حدود الفقر المهين؛ تتكاثف الغيوم فوق الرؤوس، وتتراجع القدرة على المُقاوَمة، ولا يتبقى مُتسع لضمير سليم؛ أما الحكومة التي تشحذ عتادَها وتتمكن مِن أدواتِها، وتوَطّد دعائمَ حكمها،، فتعلن أنها إنما تحمي المُجتمع مِن شرور انهيار الأخلاق، وانعدام الضمائر.
***

سجل برستيد في كتابه "فجر الضمير" دهشته الكبرى لوجود مقياس أخلاقيّ وضعته الحضارة المصرية القديمة منذ آلاف السنوات، رآه أكثر صرامةً وسموًا مِن الوصايا العشر. في هذا المقياس الذي يعبر عن ضمائر الناس؛ ما يقسم به الأحياء من الحكام، وما يتلوه الموتى عند الحساب: "لم أترك أحدًا يتضور جوعًا.. لم أنطق كذبًا.. لم أضع سدًّا للمياه الجارية.. لم أرتكب القتل.. لم أسبب تعسًا لأي إنسان".

في أجواء مَحفوفة بالقلق مِن غدٍ لا قوت فيه ولا ماء، مُشبعة بالرَّوْع مِن فقدان أبسط مقومات الحياة؛ يبحث الناس عن برّ الأمان، ولا يتبع أغلبهم بطبيعة الحال ما يمليه الضمير؛ دون أن يكونوا بالضرورة أشقياءً أو بالفطرة مُذنبين.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات