فتنة الاستعلاء - سمير عمر - بوابة الشروق
الثلاثاء 10 يونيو 2025 11:53 ص القاهرة

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

فتنة الاستعلاء

نشر فى : الأحد 8 يونيو 2025 - 8:50 م | آخر تحديث : الأحد 8 يونيو 2025 - 8:50 م

فى كتاب تاريخ بغداد يروى الخطيب البغدادى قصة أبطالها ثلاثة، أولهم هو الخليفة العباسى الواثق بالله هارون بن المعتصم بن هارون الرشيد، وثانيهم هو القاضى أحمد بن أبى دُواد وكان من رءوس المعتزلة، وهو الذى أقنع الخليفة المأمون بفكرة «خلق القرآن» حتى صارت نهجا تتبعه الدولة العباسية، وتمتحن العلماء فيها، وأما ثالث بطل من أبطال تلك القصة فهو شيخ من الرافضين لفكرة خلق القرآن.
يقول البغدادى: وأُتى للخليفة الواثق بشيخ مُقيد يقول: إن القرآن قديم وليس مخلوقا كما يقول المعتزلة، فلما دخل الشيخ قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين
فقال الواثق: لا سلم الله عليك.
فرد الشيخ: بئس ما أدبك به مؤدبك. قال الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) والله ما حييتنى بها ولا بأحسن منها.
فقال القاضى أبن أبى دُواد: يا أمير المؤمنين، هذا رجل متكلم
فقال الواثق: كلمه
فقال القاضى: يا شيخ، ما تقول فى القرآن: مخلوق هو أو غير مخلوق؟
قال الشيخ: أنا أسألك قبل
فقال القاضى: سل
قال الشيخ: ما تقول أنت فى القرآن؟
فقال: هو مخلوق
فقال الشيخ: هذا شىء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه أم لم يعلموه؟
فقال ابن أبى دُواد: شىء لم يعملوه
فقال الشيخ: سبحان الله! شىء لم يعمله النبى ولا خلفاؤه، علمته أنت؟!
فخجل ابن أبى دُواد، وقال أقلنى. «أى اعطنى فرصة أخرى»
قال الشيخ: ما تقول فى القرآن؟
قال القاضى: مخلوق
فقال الشيخ : أهذا شىء علمه رسول الله وخلفاؤه الراشدون أم لم يعلموه؟
فقال: عَلِموه
قال الشيخ: هل دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت أو سكتوا؟
فقال القاضى: سكتوا
فرد الشيخ : فهلا وسعك ما وسعهم من السكوت «يعنى فلماذا لم تفعل مثلهم وتسكت»
ويواصل الخطيب البغدادى روايته قائلا: فقام الواثق ودخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شىء لم يعلمه النبى ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت؟ سبحان الله!
هذا شىء علمه النبى والخلفاء الراشدون، ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم من السكوت.
ثم دعا الحاجب، وأمره أن يرفع عن الشيخ قيوده، وأن يعطيه أربعمائة دينار. وسقط من عينه ابن أبى دُواد، ولم يمتحن بعد ذلك أحدا.
انتهت القصة الواردة فى كتاب «تاريخ بغداد» ولم تنته المحنة المعقدة التى عاشها الرافضون لفكرة المعتزلة القائلة بخلق القرآن إلا فى عهد المتوكل الذى أدخل الأمة فى محنة عكسية باضطهاد القائلين بخلق القرآن.
بالطبع نحن هنا لسنا فى مجال مناقشة أفكار المعتزلة، فقد تصدى لهذه المهمة كثيرون قديما وحديثا، كما أننا لسنا بصدد مناقشة الفكرة الأساسية التى نبهت الخليفة الواثق إلى بطلان فكرة خلق القرآن تحت شعار «هلا وسعك ما وسعهم من السكوت» فقد رد عليها الإمام أبو حنيفة النعمان فى معرض دفاعه عن علم الكلام حيث قال: إذا قالوا: أليس يسعك ما وسع أصحاب النبى فقل: بلى يسعنى ما وسعهم ولو كنت بمنزلتهم، وليس بحضرتى مثل الذى بحضرتهم، وقد ابتلينا بمن يطعن علينا ويستحل الدماء منا، فمثل صحابة النبى كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم، فلا يتكلفون السلاح، ونحن قد ابتلينا بمن يقاتلنا، فلابد لنا من السلاح.
فدور علم الكلام فى التاريخ الإسلامى عظيم وقد لعب علماؤه دورا مهما فى بيان عقائد المسلمين، والرد على عقائد المخالفين وتقديم البراهين والحجج العقلية الدالة على فسادها.
أقول ليس هذا مجال حديثنا، ولكن ما أود الإشارة إليه هو هذه الفتنة التى دخلتها الأمة على خلفية هذا الجدل المتعلق بخلق القرآن.
فعلى الرغم من أن فرقة المعتزلة وغيرهم من علماء الكلام كانوا من الفرق المستنيرة التى أعلت من شأن العقل، إلا أن علماءها حين استتب لهم الأمر بدأوا فى اضطهاد مخالفيهم والبطش بهم معتمدين على قوة المؤسسة الحاكمة المتمثلة فى الخليفة المأمون ومن تبعه من خلفاء الدولة العباسية
تماما كما فعل علماء السلفية حين تبدلت الأحوال وأدار رأس الدولة ظهره للمعتزلة وأفكارهم.
فى هذا الكل سواء، فلا فرق بين «مدرسة العقل» التى تستعلى على معارضيها وتضطهدهم، وبين «مدرسة النقل» التى تستعلى على مخالفيها وتكفرهم.
والواقع أن تاريخنا وحاضرنا العربى زاخر بمثل هذه الفتن.
إن فكرة الاستعلاء بحد ذاتها ومهما كان نبل القيم التى يؤمن بها المرء هى فكرة كريهة فى ذاتها، وقد شهدنا فى مصر وفى أعقاب الثورة المصرية بموجتيها الهادرتين فى الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013 نماذج كثيرة من «الاستعلاء»، ما زلنا نعيش تحت ظلالها الكئيبة، وبات كثيرون موزعين بين التأييد على بياض، والمعارضة على سواد، وكل فريق يستعلى على الفريق الآخر بمواقفه وآرائه، ونسى هؤلاء أن فى الوطن متسعا للجميع، وأن الاختلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية.
المصادر:
كتاب تاريخ بغداد
كتاب نشأة الآراء والمذاهب والفرق الكلامية «مجمع البحوث الإسلامية».

سمير عمر كاتب صحفي يمتلك خبرة تمتد لنحو ثلاثة عقود في مجال الصحافة والإعلام
التعليقات