«الزمن المفقود».. رواية استعادة الفرد! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الزمن المفقود».. رواية استعادة الفرد!

نشر فى : السبت 9 مارس 2024 - 8:25 م | آخر تحديث : السبت 9 مارس 2024 - 8:25 م
هذه الرواية الصينية البديعة تغير تماما ما نعرفه عن الأدب الصينى المعاصر، وتعرفنا على كاتب استثنائى، جسور وعارم الموهبة، يتمتع بالبساطة والعمق معا، يسرد حكاياته بصورة ساخرة ممتعة، ويترك مساحات واسعة للتفكير والتأمل، ويمتلك خيالا مدهشا، وبراعة فى رسم معالم شخصياته الغريبة.
الرواية الصادرة عن بيت الحكمة للثقافة عنوانها «الزمن المفقود»، وترجمها وقدم لها أحمد السعيد بدراسة نقدية ممتازة، أما مؤلفها فهو وانج شياوبو، الذى يعتبر من أهم وأشهر الكتاب الصينيين، رغم وفاته المبكرة فى العام 1997، قبل أن يكمل 45 عاما، ولكنهم يطبعون أعماله بشكل متكرر، ويوصف دائما بأنه النسخة الصينية من امتزاج كافكا وجويس.
«الزمن المفقود» التى استلهم عنوانها من عمل مارسيل بروست الأشهر «البحث عن الزمن المفقود»، يسردها كاتب يدعى وانج أر، يمثل المعادل الفنى لشخصية وانج شياوبو نفسه. السارد يريد أن يكتب رواية عن سنوات خلت، بعد أن وصل إلى سن الأربعين، لم يحقق خلالها شيئا، سجنوه، وسافر إلى أمريكا للدراسة، ثم عاد إلى وطنه، تهاجمه الأمراض، ويحلم فقط باستعادة علاقة قديمة مع فتاة عشقها فى سن السابعة عشرة، ولكنها تزوجت من صديقه.
يحكى وانج أر عن شخصيات عرفها، وعن كوارث القفزة الكبيرة للأمام، والثورة الثقافية، وهما حدثان كبيران تركا آلاف الضحايا.
وبينما يبدو أننا أمام شخصيات مهزومة بالأساس، بل هى نماذج ممتازة لما يسمى بالأبطال الضد المهمشين، والذين يمكن ببساطة أن يصنعوا عملا تراجيديا كئيبا، إلا أن وانج شياوبو، وسارده وانج أر، صنعا عملا ساحرا وساخرا، من خلال كتابة حداثية حرة، لا تعبأ بالترتيب الزمنى، تحكى عن السارد، بقدر ما تحكى عن أصدقائه وزمنه، مع جرأة غير مألوفة فى الأدب الصينى المعاصر، فى تناول الجنس، ليس باعتباره عنصر إثارة، ولكن كملجأ وملاذ أخير لشخصيات مأزومة، وكتعبير عن حرية وحيدة ممكنة، فى مجتمع يحول الأفراد إلى تروس، وينقلهم للعمل فى أماكن ومهن يحددها، ويتدخل حتى فى عدد الأطفال المسموح للمتزوجين بإنجابهم.
الجنس فى الرواية، وفى أعمال وانج شياوبو، هو الفعل الإنسانى الطبيعى والحر فى ظروف غير طبيعية بالمرة، والسخرية هى الأسلوب الأنسب لمواجهة هذه القيود الأيديولوجية الصارمة، بل لعلها حيلة دفاعية ناجحة وذكية، تبرز حضور الذات الفردية، فى مواجهة سيطرة الحزب والثورة والدولة، وتتيح كذلك حرية فنية مناسبة، تمرر أفكارا وانتقادات حادة ولاذعة.
هذا اختيار عبقرى يترجمه وانج شياوبو ببراعة جعلته مستحقا لوصف أحمد السعيد له بأنه «الصعلوك الفيلسوف»، ولكنه أيضا فنان بالأساس، بل إن هذه الرواية القصيرة تكشف كذلك عن ثقافة واسعة، بقدر ما تكشف عن معرفة حقيقية بالبشر وبالتاريخ وبالأحوال السياسية.
وبينما تتعالى الضحكات من المواقف الغريبة، ومن بساطة وسذاجة تعاطى الشخصيات مع ظروفها الضاغطة، وبسبب تعليقات السارد على زمنه الضائع، فإننا نكتشف فى النهاية أننا أمام «كوميديا سوداء»، وأن ما يحدث للأصدقاء هو من قبيل «شر البلية»، وأنهم جميعا شخصيات جديرة بالتعاطف والرثاء، وكانوا يستحقون حياة أفضل، بدلا مما انتهوا إليه، بمن فيهم السارد نفسه.
السارد وانج أر يفكك فى الصفحات الأخيرة مجتمع التظاهر والأقنعة على كل المستويات، وحياته مع عشيقة حالية، وأحلامه باستعادة فتاة الماضى، وظروفه غير الجيدة رغم أنه أستاذ جامعى، وشعوره القوى بالزمن المفقود، وبأنه لم يحقق شيئا يذكر، كل ذلك يجعلنا أمام شخصية معلقة فى الفراغ، من الطبيعى أن تجد فى الجسد تعويضا مؤقتا، وأن تجد فى الكتابة استعادة للحياة، وإن كان الكاتب غير قادر على أن يحكى كل شىء.
نصبح فى الحقيقة أقرب إلى «مسخرة» على حد تعبير رأفت الميهى فى أفلامه، ولكنها مسخرة باطنها المأساة، لأن بديلها الانتحار، وسنكتشف أن شخصيات مثل السارد وانج آر وصديقه السيد لى وصديقه السيد ليو وصديقه المنتحر خه تعرضوا جميعا للسجن والبهدلة، وأن كل واحد منهم حاول أن يتكيف مع ما تعرض له، واختار خه الانتحار، لأنه غير قادر على التعامل مع الإهانة الجسدية.
يحدث هذا الانسحاق باسم ثورة تعيد تقييم وفرز البشر وفقا للولاء للأيديولوجية، وتنقل أستاذا جامعيا للعمل فى منجم للفحم، وتجعل الإنسان فى خدمة الشعارات والملصقات، بينما تفعل كتابة السارد وانج أر عكس ذلك على طول الخط، حيث تحضر كل شخصية بكامل هيئتها وتميزها الفردى، وحيث تقول التفصيلات إنه داخل هؤلاء الناس البسطاء عوالم هائلة من الرغبات والأمنيات.
كل شخصية لها بصمة متفردة، قد تخضع للنظام، وتروض نفسها على الامتثال كما فعل لى، ولكنها تتكلم وتشكو، وتختلس لذات الجسد، وتمتلك مشاعر وعواطف كامنة، وتصنع لنفسها طريقة للحفاظ على الذات، وللفوز بالمباهج الصغيرة، حتى لو كانت مجرد بطة مشوية، يموت صاحبها دون أن يأكلها.
فى الفصل الأخير، يستدعى السارد شخصيتين أوروبيتين تؤكدان هذه الفردية هما الإيطالى جوردانو برونو، والفرنسية جان دارك، وهما أيضا نموذجان للشجاعة ولقوة الفرد فى مواجهة الجماعة، فتكتمل بذلك فكرة المواجهة وليس الهروب، ويحقق السارد مواجهته باستعادة الزمن المفقود، وبرد الاعتبار للفرد على الورق.
ينجح النص فى استلهام جوهر فكرة بروست القديمة، فالزمن يؤثر على الأجساد والصحة، ويبدو مثل شلال أو نهر لا يتوقف، ولكن الإنسان يستطيع أن يحتفظ بتفاصيل وذاكرة وذكريات، البشر ليسوا كائنات تافهة، وإن بدوا كذلك، ومحاولة بروست، وكتابة وانج شياوبو، ليست فى جوهرها سوى نقش الإنسان على مياه هذا الزمن الهادر والعارم.
هنا استلهام مماثل، ولكن فى سياق صينى خاص، وهنا معنى الحكاية كلها: لا يوجد أهم من الفرد، حريته وبهجته، وطاقة الحياة بداخله، حتى تفاصيله الصغيرة مهمة، والثورة الحقيقية تعمل لصالح الإنسان، وليس فوق حطام الإنسان.
رواية عظيمة من أفضل ترجمات هذا العام.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات