الظاهرة الزومبية - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 7:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الظاهرة الزومبية

نشر فى : الخميس 9 أغسطس 2012 - 10:05 ص | آخر تحديث : الخميس 9 أغسطس 2012 - 10:05 ص

من أمتع الفاعليات الدراسية فى حياتى كانت تلك التى ينظمها ويقودها بروفوسير أوكرانى عجوز اسمه أندريه يفيجينيفتش. كان يقترب من الثمانين لكنه متوقد الذهن وجم النشاط كأنه فى الثلاثين. وكان يُحسن الظن بى إلى درجة تجعلنى أرتبك خجلا أمام علمه الغزير وإنسانيته الفياضة، لكن خجلى لم يصل بى إلى درجة العطالة أبدا معه، لسبب بسيط هو أن هذا الرجل لم يكن أستاذا عاديا، بل فنانا مبدعا فى أستاذيته، وله حيل وابتكارات كنت أطير بها فرحا وأتألق فى التفاعل مع دروسه فأتفوق على نفسى العادية، متجاوزا خجلى الاجتماعى بين الغرباء ولغتى الروسية الثقيلة التى اكتسبتها متأخرا.

 

لم يكن ما نتلقاه فى دروسه مجرد علم، بل كان فنا وإنسانية وحرية خلاقة واستثنائية، وتعبيرا جسورا جدا يعكس معارضة مُضمرة لكنها جلية من هذا البروفوسير ضد مجتمع الجمود الأيديولوجى والهيمنة البوليسية فى الاتحاد السوفييتى السابق، فلم يكن يُدرِّسنا المنهج السوفييتى القاصر على المُقاربة العضوية للأمراض النفسية فقط، بل كان يُدرِّسنا أيضا مناهج الدنيا الواسعة خارج دولة الستار الحديدى، حتى أكثرها تمردا أو غُربة فى الغرب، وعلى يديه ذهبت بعيدا مع روحانية كارل جوستاف يونج، وهو الذى حبذ اهتمامى بمزج علم النفس بعلم الاجتماع والسياسة عند إريك فروم، أما الأماكن التى كان يختارها لنتلقَّى دروسه فيها، فقد كانت عيدا مبهجا لنفسى التى لم تحب أبدا فصول المدراس الخانقة وقاعات المحاضرات المكبِّلة.

 

كل مكان قادنا إليه كان رحلة سارة باتجاه العلم الفن المعرفة الدهشة حتى لو كان سجنا فى غابة! وقد حدث هذا عندما قاد مجموعتنا المكونة من تسعة أطباء وطبيبات من طلبة الماجيستير والدكتوراه، فأوغلنا فى غابة كثيفة تغطى أحد تلال كييف الخضراء السبعة البهية، صعدنا نحو بناية بيضاء أخذت تكبر كلما اقتربنا منها، لنكتشف أننا فى النهاية ندخل سجنا من نوع خاص، كل ما فيه أبيض حتى القضبان، وليس فيه سجانون بالمعنى الشائع، بل أطباء نفسيون وممرضون وممرضات وحُراس ذوو تأهيل نوعى، فقد كان هذا هو سجن احتجاز مرتكبى الجرائم المشكوك فى سويتهم العقلية، وهناك تلقينا لنهار كامل أعرض وأعمق درس يمكن أن يتخيله دارس للتخصص، فى مجال السيكوباتية، وكان مذهلا ومخيفا ومحيرا ذلك الحشد من المواجهات العلمية العملية، مع قتلة بوجوه طفولية صافية البراءة، ومُغتصِبين عجزة، ومُحتالين مصروعين.

 

أتذكر يوما دراسيا قضيناه فى كاتدرائية على قمة تل أخضر لصق المستشفى الذى نعمل به وندرس، وكانت مُفرَغة من إقامة الشعائر الدينية ومُدرجة ضمن التراث المعمارى والفنى للبلاد، وأكثر من يَؤمونها من طلبة كليات الفنون والعمارة، يدرسون طرازها المعمارى الفريد ويستنسخون لوحاتها العملاقة التى رسمها، وحده، على الأسقف والحيطان فنان روسى من المستوى العالمى، عبقرى ومجنون اسمه «فروبل»، انتهى به المطاف إلى الموت فى المبنى القديم من مستشفانا قبل أن يتوسع ويحمل اسم بافلوف، وكان الدرس المذهل والمنعش الذى تلقيناه عبر لوحة «العشاء الأخير» التى رسمها هذا الفنان باقتدار لا يقل عن مايكل أنجلو، هو «تقسيم الأمراض النفسية»، وهذا يمثل خريطة السير التى لا غنى عنها لأى طبيب نفسى يرتحل فى أدغال النفس الإنسانية، ولم تكن الشخصيات التى رسمها فروبل فى لوحته البانورامية، سوى «فروبل نفسه» فى المركز، ومن حوله ثلاثة عشر من زملائه المرضى فى المصحة التى كان يتردد عليها. ومن هذه اللوحة المجنونة لرسام مجنون قدَّم لنا أستاذنا الفنان مخططا لا يُنسى لتقسيم الأمراض النفسية، لم أتخل عنه أبدا، ولم يثبت فشله برغم تقليديته.

 

أتذكر درسا فى متحف كل لوحاته عن البحر، ودرس فى رحلة عبر نهر الدنيبر العريض العفى، ودرس فى حديقة نباتات الليلك الأبيض المعروفة عالميا لدى المهتمين بالحدائق، أما الدروس التى كان مضطرا لإقامتها فى قاعة المحاضرات بالقسم، فلم تكن تقليدية أيضا، فهو يرصعها بمناقشة حالات منتقاة من المرضى، أو بوسائل إيضاح متعددة، كان أكثر ما علق بذاكرتى منها وفرة من عروض لأفلام علمية وتاريخية على آلة عرض عتيقة مقاس 35 مم كان البروفوسير يشغلها بنفسه، ويحضرنى الآن مما شاهدناه فيلمان تسجيليان عن بزوغ وازدهار ظاهرتى موسولينى وهتلر، توقف فيهما البروفوسير طويلا أمام ما تنبئ عنه المظاهر الخارجية للشخصيتين من اختلالات داخلية، فيما يسمى «التشخيص المورفولوجى» كعنصر مهم فى التقييم النفسى.

 

فى يوم هتلر وموسيلينى ذاك، كنا فى المحاضرة نحن الأطباء والطبيبات التسعة نضحك ونصخب أمام فجاجة وسطوع الخلل النفسى للشخصيتين المدروستين، وكان ملفتا لى على وجه الخصوص، أن موسولينى كان الأصل المرضى الذى تقمصه القذافى، فكأننى كنت أرى القذافى بفكه العريض ووجهه المُتعالى المائل فى كِبر وزهو، مع تفوق الأخير فى زركشة جنونه الخيلائى بالثياب العجيبة والنظارات الباذخة. وكان البروفوسير يبدأ محاضرته بعرض الأفلام، ثم يسأل كلا منا عما رآه فيها، وكان هناك إجماع على أن الشخصيتين تعانيان من مركب نقص عميق يتم تعويضه بمظاهر خُيلائية فاقعة جدا. وكان من عادة البروفوسير أن يُرجئ سؤالى لأكون آخر من يتكلم من الدارسين، ربما تقديرا منه لحدود لغتى الروسية، وربما لأنه كان يحسن الظن بى. وقد ارتبكت عندما سألنى هذه المرة، فقلت إننى أوافق على ما أجمع عليه زملائى وزميلاتى، ولكن. ولم أكد أنطق كلمة «ولكن»، حتى عاجلنى المُعلِّم الأريب: «ولكن ماذا؟».

 

ولكن الحقيقة أن أكثر ما ظل يشغلنى فى أعقاب عرض الفيلمين، لم يكن شخصيتى هتلر وموسيلينى المريضتين بانفضاح يكاد يكون كاريكاتوريا هزليا، بل كان ما يشغلنى ويثير استغرابى واستعجابى وفزعى هو حالة الجماهير التى كان يخطب فيها هتلر أو موسولينى، والحشود المشتعلة بالحب والحماس لهذين المجنونين. قلت هذا للبروفوسير أندريه يفجينيفتش، فمنحنى الوسام الذى كان ينعم به علىَّ أحيانا: «كانيشنا.. إتاموخاميد». طبعا.. هذا هو محمد.

 

فى العادة كان البروفوسير بعدما يمنحنى هذا الوسام، يمعن فى إرواء ما لمحته بالمزيد من علمه وخبراته الفياضة، لكنه فى هذا المرة أمسك، واستبقانى بعد المحاضرة ليقول لى إن هذا الموضوع متعلق بالهيستيريا الجماعية وغوغائية الجماهير وتأثير أبواق «بروباجاندا» الدعاية السياسية على الحشود، وأومأ لى دون صوت يمكن أن تسمعه الحيطان الشيوعية البوليسية التى لها آذان وأنياب ومخالب، إلى أن هذا يحدث: «الآن، وهنا». يومها لفنى حزن عميق على عالِم حقيقى يعيش فى سجن معنوى داخل أحد أكثر مدن العالم خضرة، وكنت أود أن أناقشه فى إمكانية أن يكون مَصاب جماهير كهذه عائدا لنوع من «غسيل المخ» الجمعى، لكننى أمسكت، وإن ظل يتولانى الاستغراب أمام غوغائية الجماهير فى كل مكان خاصة فى البلدان «المُتقدمة»، وكيف لشعب متميز كالشعب الألمانى، على سبيل المثال الأوضح والأفدح، أن يستلب عقله مختل مفضوح مثل هتلر؟ سؤال توسع ليشمل استلاب العقل الفردى، وكيف يتبنى البعض بحماس جنونى أفكارا واضحة الخطأ والخطل؟

 

لقد تابعت بالأسى والاحتجاج والسخط كما كل مصرى، تلك المجزرة التى ارتكبها فى سيناء بعض المحسوبين علينا، مصريين كانوا أو فلسطينيين، ضد جنود وضباط مصريين فى لحظة يتناولون فيها إفطارهم بعد صوم نهار طويل حار، وقرأت وسمعت كلاما كثيرا فارغا وبعضه ملآن، ثمة من يُبرئ هذا الجانب أو ذاك، وثمة من يُحمِّل وِزرا لهذا الجانب أو ذاك، لكن أحدا لم يتعرض لحل لغز سلوك من قاموا بهذه الجريمة الشنيعة بدعوى الجهاد ضد اسرائيل، فنحروا غدرا ستة عشر مصريا للاستيلاء على مدرعة مصرية أو مدرعتين يخترقان بهما الحدود، للقيام بعملية «جهادية» ينالون فيها «الشهادة»! فساد عقلى واضح، يجعل بشرا يدَّعون منتهى التدين بتبنَّون أفكارا واضحة الفساد؟ ماذا حدث فى أمخاخ هؤلاء للإقدام على سلوك وضيع ووحشى على هذا النحو؟

 

هل كانوا مجرد أفراد من «الزومبى» تسوقهم إلى كل هذا الشر إرادة من خارجهم سلبتهم عقولهم أو أعطبتها بآليات مادية أو معنوية ما؟ لاح لى السؤال على هذا الشكل بينما كنت أصل فى قراءاتى عن الصراصير المنزلية (التى تكلمت عن حربى معها فى الأسبوع الفائت) إلى منعطف عجيب تتحول فيه الصراصير بإرادة من خارجها إلى نوع من «الزومبى» مسلوب العقل، ينفذ برامج تؤدى إلى تمزيقه حيا لصالح من يقوده؟ سؤال يتضمن إجابة لاتنطوى على أى حط من شأن البشر، من كاتب يؤمن أن الكائنات جميعا من خلق الله لغاية وحكمة، وماهم إلا أمم أمثالنا، وأمثلة تُضرب للناس لتُيسِّر عليهم تقدير ما يعسر تقديره.

 

أمر عجيب يُشكِّل مشروع رؤية. فإلى خميس قادم.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .