حين تستمر الحرب طويلًا مثل تلك التى نشهدها فى غزة منذ السابع من أكتوبر الماضى، تتوطد علاقتنا بمراسلي الفضائيات الذين يطلون علينا عبر الشاشة. يرتعش صوتهم أحيانًا من هول ما يرون، لكن يحاولون التحدث بهدوء.. يستجمعون شجاعتهم ويتقدمون لأداء مهام صعبة. يشعرون بالطبع أن «الوقت راح يخلص» وأن الحرب لا تنتهى بل تتكرر مشاهد العنف الضارى أمامهم ويتملكهم الإحساس بالعجز. نفتقدهم إذا غابوا، ونتألم حين نعلم أنهم قضوا ضمن آخرين يموتون كل يوم، فالصحفيون بصفة خاصة مستهدفون منذ بداية القتال، وقد تم حتى الآن اغتيال 166 صحفيًا فلسطينيًا.
شاهدنا إسماعيل الغول على قناة «الجزيرة» قبل دقائق من اغتياله هو ورفيقه المصور رامى الريفى، ولاحظنا تغير ملامح البعض بعد أشهر من المتابعة، فقد ربطت بيننا العِشرة. البعض ينتظر ملخص عدنان جان للأحداث من القدس قبل أن ينام كل ليلة، وآخرون يتعرفون فورًا على صوت أحمد البطة مراسل «العربى» فى غزة بعدما فقد الكثير من وزنه لحزنه على إبادة العديد من أفراد عائلته، ويستغربون ما يتمتع به من رباطة الجأش مثلما هو الحال بالنسبة لوائل الدحدوح الذى اضطرته الظروف اضطرارًا إلى مغادرة الميدان. نبتهج قليلًا حين نسمع خبر ترشح صانعة المحتوى العنيدة بيسان عودة إلى جائزة إيمى لأفضل القصص الإخبارية، ونتذكر على الفور جملتها الشهيرة: «مرحبًا يا رفاق. أنا بيسان من غزة وما زلت على قيد الحياة».
• • •
قد ننسى تفاصيل الحرب بعد سنوات من الآن لكنهم قطعًا لن ينسوا، وقد اختاروا مهنة البحث عن الحقيقة، وغالبًا ما تكون هذه الأخيرة أولى ضحايا الحرب فى ظل حيل التلاعب والدعايات المضللة والأكاذيب التى هى جزء من اللعبة منذ القدم، وحتى قبل ظهور مهنة المراسل الحربى التى تطورت كثيرًا مع تطور وسائل القتال والتقدم التقنى خلال القرن التاسع عشر.
كانت حرب القرم (1853-1856)، بين الإمبراطورية الروسية من ناحية وبين الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا ومملكة سردينيا من ناحية أخرى، فرصة لظهور المصور الصحفى الموجود على الجبهة والذى نُشرت أعماله جنبًا إلى جنب مع نصوص تغطية الصراع، كما ازدهر خلالها أيضًا قالب «الريبورتاج» القادر على وصف الأحداث الجسام ونقلها ومشاركة القارئ إياها لحظة بلحظة. لمعت أسماء بعينها أثناء تلك الفترة مثل المصورين البريطانيين جيمس روبرتسون وروجر فينتون، رافقت فوتوغرافيا هذا الأخير تقارير واحد من أوائل مراسلى الحرب فى العالم وهو وليام هورد راسيل فى جريدة «التايمز» اللندنية، لتخفف من حدة لهجتها ونظرتها النقدية خاصة فيما يتعلق بظروف معيشة الجنود الإنجليز. كانت الصور المنشورة ذات طابع استشراقى إلى حد ما ولم تركز على مناظر الجثث والضحايا، لكن أصبح وقتها من حق الجمهور العادى أن يطلع على ما يجرى فى ساحة القتال. ساهم راسيل ورفاق آخرون فى إرساء دعائم هذه المهنة، وكان يفضل تسمية «صحفى ميدانى» على وصف «مراسل حربى»، وساعدهم فى أداء دورهم حجم التقدم مع انتشار التلغراف والسكك الحديدية والمراكب البخارية. هذا التقدم كان معناه أيضًا أسلحة أكثر ضراوة وفتكا، وبالتالى مشاهد أكثر وحشية حركت مشاعر العديد من الكتاب مثل الأديب الروسى تولستوى (1828-1910) الذى شارك فى حرب القرم كضابط وليس كمراسل صحفى، وقد كان لها تأثير كبير على مسيرته فيما بعد.
• • •
ذهب تولستوى إلى الحرب فى شبه جزيرة القرم، شمال البحر الأسود، وهو فى السادسة والعشرين من عمره، وشارك فى حصار مدينة سيفاستوبول الذى دام أحد عشر شهرًا من أكتوبر 1854 إلى سبتمبر 1855، وترك لنا ثلاث قصص تركز على تفاصيل ما جرى جمعها فى كتاب بعنوان «حصار سيفاستوبول»، بعدما نشرها تباعا فى جريدة «المعاصر» تحت مسمى «نصوص حربية للكونت ل.ن. تولستوى». انتهى الصراع بسقوط هذه المدينة وهزيمة الروس، وظل الوجه القبيح للحرب عالقا برأس الكاتب. وكانت هذه النصوص الثلاثة الأقرب إلى شكل «الريبورتاج» هى الركيزة التى بنى عليها أعمال عظيمة تالية ومنها مؤلفه الأهم «الحرب والسلام» (1867)، وخطوة نحو تخلصه من الكثير من الزخرف والجماليات الأدبية التى قد لا تخدم المعنى.
وصف تولستوى الحرب فى الخنادق، واصطحبنا إلى الشوارع والحارات الضيقة حيث عاش سكان المدينة لشهور تحت القصف، أدخلنا إلى المستشفى الحربى والأماكن المحظورة، وجعلنا نشارك حياة الجنود ونلمس نقص الإمدادات ونتفهم مخاوفهم وإحساسهم بالقرف تجاه الحرب. توقف مليًا عند تعامل الأشخاص على اختلافهم مع فكرة الحرب والموت وتعاملهم مع الخطر. القصة الثالثة تروى حكاية أخين كانا متواجدين على الجبهة، الأصغر يخشى أن يظهر بمظهر الجبان، لكن عند اللحظة الحاسمة يتضح له أن الجنود جميعا مرتعبون وحينها يفاجئ نفسه بأعمال باسلة لم يكن يتخيل أنه قادر عليها.
إعادة اكتشاف الذات والقدرة على التكيف التى تظهر فى لحظات الهدوء القصيرة عندما يحاول الناس ممارسة حياة شبه طبيعية والضحك والترفيه عن أنفسهم رغم كل الحزن والرهبة وويلات القتال، كلها مشاعر مختلطة لا تتقادم مع الوقت ولا تتغير من حرب إلى أخرى. تذكرنا بهؤلاء الشجعان الذين نراقبهم حاليًا على الشاشات ولا نعرف كيف استطاعوا الصمود ولا كيف لا يزالون قادرين على الوقوف أمام الكاميرات. ونقول حين تضع الحرب الحالية أوزارها ستظهر دون شك نصوص وكتابات مختلفة لا تقل أهمية وزخمًا عن مؤلفات تولستوى، وستشهد على فصل من أفظع وأقذر ما شهدته الإنسانية.