قصة غرام وانتقام - هاني شكر الله - بوابة الشروق
الجمعة 25 أبريل 2025 2:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

قصة غرام وانتقام

نشر فى : الخميس 12 مارس 2009 - 7:36 م | آخر تحديث : الخميس 12 مارس 2009 - 7:36 م

 لو لم تكن قضية مقتل المغنية اللبنانية لوجب اختراعها، فليس ثمة رواية تصلح عنوانًا لواقعنا الاجتماعى والسياسى هذه الأيام مثلها. القضية لم تزل قابعة فى ساحة القضاء، ولست بصدد التعليق عليها، احترامًا للقاعدة القانونية القائلة ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته، بحظر نشر أو بدونه.

دعنا إذن نترك ما للقضاء للقضاء، ونبتعد عن القضية الحقيقية لنتصور ما طرح بشأنها من تفاصيل، فاضت بها صفحات الجرائد، فى شكل قصة متخيلة. ربما تكون رواية جديدة لعلاء الأسوانى، تحفل بالرمز والنماذج البشرية المعاصرة، أو سيناريو سينمائى تركه المخرج العظيم يوسف شاهين قبل رحيله، مواصلة لمسعى ميَّز سينماه عبر عدة عقود من الزمان، ألا وهو محاولة التكثيف الدرامى، وبلغة سينمائية، للسؤال الأكبر المطروح على المجتمع المصرى فى لحظة تاريخية معينة: سؤال عبدالناصر والقومية العربية فى «الناصر صلاح الدين»، وسؤال العدالة الاجتماعية فى «الأرض» و«باب الحديد»، وسؤال هزيمة يونيو فى «العصفور»، وسؤال الهوية المصرية فى «إسكندرية ليه»، على سبيل المثال لا الحصر.

ولكن سواء فى رواية الأسوانى المتوهمة، أو سيناريو شاهين المختلق، نجد أنفسنا إزاء قصة تعكس إلى حد المبالغة، والإفراط فى «المباشرة»، خصائص شاعت وغرست جذورها بعمق فى المجتمع المصرى خلال السنوات العشرين الأخيرة.

لعله غنى عن الذكر أن اتحاد السلطة والمال يشكل الظاهرة الأبرز فى قصتنا هذه، كما فى المجتمع الذى كتبت القصة لتكثفه، متجسدا فى شخصية البليونير صاحب المشروعات الكبرى، والعضو البارز فى الحزب الحاكم والنائب فى مجلسه النيابى. فلقد بينت التجربة التاريخية أن تحرير الاقتصاد لا يعنى بالضرورة إتاحة الحرية السياسية، وأن تقليص الدور الاقتصادى للدولة لصالح القطاع الخاص لا يؤدى بصورة آلية إلى توسيع قاعدة المشاركة السياسية. ثمة مسار آخر كشفت عنه التجربة التاريخية فى بلدان مختلفة من العالم، وبالأخص فى عالمنا العربى، وهو إنشاء شبكات واسعة وبالغة التعقيد من الصلات المتشعبة والعميقة والخفية على الأغلب، بين عالمى البيزنس والبيروقراطية، وذلك بمعزل عن المجال السياسى، ووراء ظهره، فتصبح المجالس النيابية أشبه بغرف التجارة، ساحات صفقات وتصفيق، ولا نعود إزاء «تأميم» للمجال السياسى، وإنما إلغائه.

إمعانا فى «المباشرة» اختار الروائى أو كاتب السيناريو أن تتصل المشروعات الكبرى لبطل القصة بالثروة العقارية وأراضى الدولة، إيماءً ربما إلى غلبة الطابع الريعى، ضعيف الإنتاجية، للتطور الرأسمالى فى مصر خلال العقود الأخيرة، وربما أيضا إيماءً إلى نوع من الرأسمالية دخل الأدب الاقتصادى الاجتماعى الحديث، وهو ما قد نطلق عليه بالعربية عبارة «رأسمالية الخلان»، كترجمة محتملة للمصطلح الإنجليزى (crony capitalism).

البطل الثانى فى القصة لا يقل فى أهميته الرمزية عن البطل الأول. إنه ضابط أمن الدولة، وقد تخرج فى مدرسة مكافحة الإرهاب، ليصبح «بودى جارد» للبليونير. نموذجنا هنا يحفل بالإيماءات: تزاوج السلطة والمال، ربع قرن من إعمال قانون الطوارئ، أكثر من عقد قضى فى معركة لم يحدها عرف أو قانون بين الدولة والإرهاب الدينى غرست الشراسة والعنف فى قلوب كل من شارك فيها، تغول أجهزة الأمن، وشيوع التعذيب، وعدم احترام القانون من الأجهزة القائمة على حمايته.

لا بأس بكل هذا، ويعيبه كما سبقت الإشارة، أنه مباشر أكثر من اللازم، وهو ما قد نستكثره على مخرج كبير كشاهين، وروائى عالمى كالأسوانى. ولكننا ننتقل من دائرة رمزية فجة بعض الشىء إلى دائرة الذهول، وعدم التصديق، حين نترك الشخوص ونتأمل فى القصة نفسها. وأعترف أن أكثر ما أثار انتباهى فى تفاصيل القصة المنشورة لم يكن الجريمة نفسها، أو شخوصها الرئيسيين، ولم أكن أعرف بوجود المغنية اللبنانية القتيلة إلى أن قرأت أخبار قتلها. تألمت بشكل عابر، كما لابد وأن يتألم أى إنسان، حين يسمع بموت عنيف لشخص ما، أيا من كان، ولكنى روعت لأمرين مغايرين فى القصة كما نقلتها أجهزة الإعلام: سفه بغير حدود وانعدام استثنائى للكفاءة.

فى الواقع فإن أكثر عناصر القصة إدهاشا هو الأرقام ـ تلك المبالغ الخيالية التى قيل إنها أنفقت على الفتاة اللبنانية تعسة الحظ حياة وموتا: مليونا دولار (10.8 مليون جنيه مصرى) ثمنا للقتل، 6 ملايين دولار (32.4 مليون جنيه) ـ فى أحد التقديرات ـ على سبيل خطب الود. صحيفة تنقل عن والد القتيلة أن رجل الأعمال المتهم كان قد عرض على ابنته الراحلة مهرا قدره 50 مليون دولار (270.4 مليون جنيه)؛ لتقبل بالزواج منه، ورفضت. صحيفة أخرى تنقل عن «مصادر» أن ضابط أمن الدولة السابق دفع رشوة قدرها 200 ألف دولار (أكثر قليلا من مليون جنيه) لرجال أمن المبنى الذى كانت تقيم فيه القتيلة فى بلد خليجى. وتتوالى الأرقام؛ فيلا هدية من رجل الأعمال للمغنية اللبنانية تساوى 7 ملايين جنيه، وحزاما مرصعا بالماس ثمنه 165 ألف دولار (846 ألف جنيه)، وبرطمان كوكايين فى شقة المتهم بالقتل يقدر ثمنه بـ500 ألف دولار (2.7 مليون جنيه).

ليس لدى ما يؤكد أى من السابق، وقد يكون أضغاث خيالات، ولكننا لسنا معنيين هنا بالحقيقة (وقد تركناها فى أيدى القضاء) ولكن بالقصة كما رويت، سواء أخذت شكل سيناريو فيلما أو عملا روائيا.

لست عليما بأحوال أسواق القتل المحلية أو العالمية، ولكن أغلب ظنى أنك تستطيع تأجير قاتل محترف من الولايات المتحدة الأمريكية بأقل كثيرا من مليونى دولار، وأعرف أن الغرام قد يدفع إلى الجنون، وتراثنا العربى حافل بقصصه، ولكنى أستكثر على فيلم، حتى ولو كان للراحل حسام الدين مصطفى، وليس لشاهين، أن يحاول إقناعى بأن رجل أعمال يمكن أن ينفق كل هذه الملايين لخطب ود امرأة أيا كان سحرها.

ويبقى أن كلا من السفه وعدم الكفاءة منقطعة النظير فى القصة، ورغم ما يثيرانه من دهشة وعدم تصديق، يمكن تفسيرهما مع ذلك فى ضوء الإطار العام لرمزية ما قررنا التعامل معه كعمل درامى.
السفه خاصية من خصائص الرأسماليات المتخلفة، وبالذات غير المنتجة أو ضعيفة الإنتاجية، يفاقمه ما توحى به قصتنا من سهولة كبيرة فى تحقيق أرباح خيالية فى فترات قصيرة للغاية بفعل التشابكات المعقدة بين السلطة والمال.

ويبقى أن انعدام الكفاءة هو بطل القصة الحقيقى. فهو التعبير الأكثر كثافة عن كل ما سبق. فإذا نظرنا للأمر من وجه نظر الاقتصاد سنعرف أن الربح السهل يؤدى إلى عدم كفاءة، وعلى العكس فإن الرأسماليين يتجهون إلى رفع الإنتاجية (أى الكفاءة) لتخفيض التكلفة وزيادة الربحية. ونعرف أيضا أن الاستبداد السياسى والبوليسى يعلم عدم الكفاءة. لماذا أنفق وقتا وجهدا ومالا وعلما فى البحث الجنائى (كل ذلك الذى نراه فى المسلسلات البوليسية الأمريكية) حين يكون فى وسعى اعتقال أوسع دائرة ممكنة من المشتبه فيهم وتعذيبهم حتى يعترف أحدهم بالجريمة، سواء ارتكبها أو لم يرتكبها، فالاعتراف ــ كما يقولون ــ سيد الأدلة.

هاني شكر الله عضو مجلس تحرير جريدة الشروق ، و المدير التنفيذي لمؤسسة هيكل للصحافة العربية ، وهو رئيس التحرير السابق لصحيفة الأهرام ويكلي ، كما أنه عضو مؤسس للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، وعضو مؤسس وعضو مجلس إدارة المركز العربي الأفريقي للأبحاث.
التعليقات