سؤال الدولة العميقة فى مصر - فهمي هويدي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سؤال الدولة العميقة فى مصر

نشر فى : الثلاثاء 12 يونيو 2012 - 8:50 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 12 يونيو 2012 - 8:50 ص

لأن الكثير مما يحدث فى مصر الآن يتعذر افتراض البراءة فى تفسيره، فإن ذلك يستدعى أكثر من سؤال حول مدى إسهام «الدولة العميقة» فيه.

 

(1)

 

سبقنى إلى طرح السؤال الصحفى البريطانى البارز روبرت فيسك، حين نشرت له صحيفة «الإندبندنت» فى الخامسة من الشهر الحالى تحليلا استهله بقوله: هل ظهرت الدولة العميقة على مسرح الأحداث فى مصر؟  كان الرجل قد جاء إلى القاهرة وانتابته الحيرة التى عصفت بنا، بحيث لم يجد مفرا من استبعاد احتمال المصادفة فى تتابع وقوع العديد من الأحداث. ومن ثم وجد نفسه مدفوعا إلى التساؤل عن وجود دور الدولة «العميقة» فيما جرى ويجرى.

 

ربما كان المصطلح جديدا على قاموس السياسة فى مصر لأن النظام المستبد الذى ظل قابضا على السلطة طوال الثلاثين سنة الأخيرة على الأقل لم يكن بحاجة إلى دولة عميقة تحمى مصالح الأطراف المستفيدة منه وتشاغب على الدولة القائمة. ذلك أن سياسة الدولة كانت تخدم تلك المصالح وترعاها. وهو الوضع الذى اختلف بعد الثورة التى تحاول تأسيس نظام جديد يتعارض مع تلك المصالح.

 

الدولة العميقة ليست اكتشافا جديدا، لان المصطلح متداول فى دول عدة، بعضها فى أمريكا اللاتينية، ثم أنه مشهور وله رنينه الخاص فى تركيا بوجه أخص منذ أكثر من نصف قرن. ويقصد به شبكة العملاء الذين ينتمون إلى تنظيم غير رسمى، له مصالحه الواسعة وامتداداته فى الداخل والخارج. ونقطة القوة فيه أن عناصره الأساسية لها وجودها فى مختلف مؤسسات ومفاصل الدولة، المدنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأمنية. الأمر الذى يوفر لتلك العناصر فرصة توجيه أنشطة مؤسسات الدولة الرسمية والتأثير فى القرار السياسى. وللدولة العميقة وجهان، أحدهما معلن وظاهر يتمثل فى رجالها الذين يتبوأون مواقع متقدمة فى مؤسسات الدولة والجيش والبرلمان والنقابات إلى جانب مؤسسات الإعلام ونجوم الفن والرياضة. الوجه الآخر خفى غير معلن يتولى تحريك الأطراف المعنية فى مؤسسات الدولة لتنفيذ المخططات المرسومة.

 

المتواتر فى أوساط الباحثين أن المخابرات المركزية الأمريكية هى من غرس بذرة الدولة العميقة فى تركيا عام 1952. واستهدفت من ذلك ضمان التحكم فى قرارات قيادات الجيش وصناع القرار وغيرهم من السياسيين الكبار فى مختلف مواقع وأجهزة السلطة. وبمضى الوقت استشرت الدولة العميقة وتطورت، حتى أصبحت كيانا موازيا للدولة الرسمية، وقادرا  على الضغط على الدولة الأخيرة وابتزازها.

 

يطلقون عليها فى تركيا اسم «ارجنكون». وللكلمة رنينها الخاص فى الذاكرة الشعبية. إذ تقول الأسطورة أن الصينيين حين هاجموا القبائل التركية أثناء وجودها فى وسط آسيا، موطنها الأصلى، فإنهم هزموهم وطاردوهم، بحيث لم يبق من الجنس التركى سوى قلة من الناس احتموا بواد عميق باسم ارجنكون، فتحصنوا فيه وظلوا مختفين بين جنباته سنين عددا.

 

وبمضى الوقت تكاثروا وضاق بهم المكان ولم يعرفوا كيف يخرجون منه، وحين ظهر فى حياتهم الذئب الأغبر فإنه دلهم على طريق الخروج من الوادى، ومن ثم اتيح لهم أن ينفتحوا على العالم ويقيموا دولتهم الكبرى. لذلك أصبح الذئب الأغبر رمزا للقوميين الأتراك، وغدت كلمة ارجنكون رمزا للحفاظ على الهوية وبقاء الجنس، إذ لولاه لاندثر الأتراك ولم يعد لهم وجود. وحين حملت المنظمة ذلك الاسم فإنها أرادت أن توحى للجميع أن رسالتها هى الدفاع عن تركيا ضد كل ما يهددها.

 

 (2)

 

منذ تأسيسها ظلت منظمة ارجنكون على خصومة مستمرة مع الهوية الإسلامية فى البلد الذى يمثل المسلمون 99٪ من سكانه. صحيح أن المنظمة مارست أنشطة عدة، مثل غسل الأموال والإتجار فى السلاح والمخدرات، لكن تلك الخصومة احتلت المرتبة الأولى، لأنها تذرعت بالدفاع عن العلمانية، التى يعتبرها الكماليون قدس الأقداس فى تركيا.

 

يوما ما نشرت صحيفة «اكيب» صورة لسيدة ترتدى خمارا وإلى جوارها صور لثلاثة أشخاص وكان ذلك ضمن تقرير تحدث عن ممارسة السيدة لأعمال منافية للآداب، اعترف بها الأشخاص الثلاثة. وتصادف أن وقعت الصحيفة بين يدى أحد الصحفيين الأتراك الذين درسوا فى مصر وله متابعته للمجلات العربية. وما إن وقعت عيناه على الصور المنشورة حتى تعرف على صاحبة الصورة، التى كانت الممثلة المصرية السيدة آثار الحكيم، وانتبه إلى أنها كانت على غلاف مجلة «سيدتى» (عدد 18 يناير سنة 1997). وحين رجع إلى المجلة وجد أن صور الأشخاص الثلاثة هى لمصريين نشرت صورهم فى العدد ذاته، فى سياق مختلف تماما. لم يفاجأ زميلنا الصحف التركى  سفر توران الذى يعمل الآن مستشارا للشئون العربية بمكتب رئيس الوزراء  فما كان منه إلا أن ظهر على شاشة التليفزيون وفضح الصحيفة، حين أظهر للمشاهدين التقرير الذى نشرته، ووضع إلى جواره غلاف صحيفة «سيدتى»، ولم يكن ذلك هو التلفيق الوحيد، لأن وسائل الإعلام التركية وثيقة الصلة بمنظمة ارجنكون حفلت بالقصص المماثلة التى ما برحت تشوِّه صورة المتدينين وتحاول إقناع الناس بأنهم ليسوا منحرفين سياسيا فحسب، ولكن منحطين أخلاقيا أيضا، حتى أن إحدى الصحف نشرت صورة للسيدة زينب الغزالى، الشخصية الإسلامية المعروفة فى مصر وإلى جوارها صورة شبه عارية لفتاة وسط تقرير ادعت الصحيفة فيه أن الفتاة زوجة ابنها وأنها تبيع جسدها للراغبين.

 

أما المشايخ فقد كان حظهم أوفر من التشهير الذى تعمد تقديمهم بحسبانهم أفاقين وشهوانيين ولا هم لهم سوى ممارسة الجنس والإتجار فى الأعراض. وإذا كانت الصحافة الصفراء قد لجأت إلى ما فعلته بحق السيدة آثار الحكيم والحاجة زينب الغزالى، رحمها الله، فلك أن تتصور مدى الجرأة على الاختلاق والتلفيق الذى بلغته فى هذا الصدد.

 

هذا التشويه الأخلاقى يظل نقطة فى بحر إذا ما قورن بحملات التشويه التى ما برحت تخوف الأتراك من عودة الخلافة، ومن «شبح» الشريعة، ومعها إرهاصات التطرف والإرهاب.

 

وهذه الحملات الأخيرة لا تزال مستمرة حتى الآن، حيث لم تكف الأحزاب المعارضة، القومية واليسارية، عن توجيه الاتهام إلى رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وفريقه بأن لديهم أجندتهم الخفية التى تستهدف إعادة الخلافة وتطبيق الشريعة. إلا أن الخصومة بلغت ذروتها فى عام 1996، حين شكل نجم الدين اربكان زعيم حزب الرفاه الإسلامى حكومة ائتلافية، لأول مرة فى تاريخ الجمهورية. وهو ما استنفر المنظمة واستفز عناصر التطرف العلمانى. فظهرت تلك التقارير تباعا فى بعض الصحف، وأطلقت مظاهرات الدفاع عن العلمانية، والقيت قنبلتان على فناء صحيفة الجمهورية العلمانية المتطرفة (مدير تحريرها اتهم بعضوية منظمة ارجنكون) وقتل أحد المحامين قاضيا فى المحكمة العليا، وفى التحقيق قال المحامى إن القاضى كان يعارض السماح للمحجبات بالدراسة فى الجامعات.

 

هذه المقدمات لم تكن كلها مصادفات، ولكنها كانت من قبيل التسخين وتهيئة الأجواء لنزول الجيش إلى الشوارع، ودعوة مجلس الأمن القومى لاجتماع استمر تسع ساعات فى 28 فبراير عام 1997، وإصداره قائمة من القرارات التى استهدفت كلها قمع الإسلاميين واقصاءهم من أجهزة الدولة وحصار التدين فى كل مظانه، الأمر الذى انتهى باستقالة اربكان من منصبه وبإغلاق حزب الرفاة الذى يرأسه.

 

(3)

 

حين تولى حزب العدالة والتنمية السلطة بعد أن فاز بالأغلبية فى عام 2002، كان طبيعيا أن يفتح ملف الدولة العميقة، حيث كان مفهوما أن الصدام قادم لا محالة على منظمة ارجنكون، وقد سارع بفتح المف أن أجهزة الأمن كانت تراقب شقة سكنية بإحدى ضواحى استنبول. وحين اقتحمتها عثرت فيها على مخزن للأسلحة وعدة وثائق بالغة الأهمية. إذ وجدت بها قنابل من نفس الطراز الذى ألقى على صحيفة الجمهورية، كما عثرت على صورة للمحامى قاتل القاضى مع أحد الجنرالات المتقاعدين. وصورة أخرى لقائد الشرطة العسكرية السابق، الذى يعد أحد أهم خمس قيادات عسكرية فى البلاد، وصورة لجنرال ثالث مع مؤسس جمعية الدفاع عن الأفكار الأتاتوركية. وكانت تلك الوثائق بين الخيوط المهمة التى تتبعتها أجهزة الأمن والتحقيق التى توصلت إلى ملفات أخرى فى تنظيم أرجنكون الجهنمى.

 

فى الرابع من شهر مايو الماضى نشرت صحيفة «حريث» التركية أن 19٪ من جنرالات الجيش أصبحوا خلف القضبان بعدما أدت التحقيقات الجارية فى قضية أرجنكون إلى اعتقال 68 جنرالا منهم.

 

وقد اتهموا بتنفيذ مخطط سياسى وإعلامى للإطاحة بحكومة اربكان فى عام 1997، من خلال الضغط على بعض النواب والساسة ووسائل الإعلام للتحريض ضد الحكومة وإسقاطها، إضافة إلى تصفية مؤسسات اقتصادية وجمعيات إسلامية، وتقديم كشوفات بأسماء حوالى 6 ملايين شخص فصلوا من عملهم بأجهزة الدولة أو روقبوا أو منعوا من العمل أو التقدم فى أى نشاط سياسى أو اقتصادى.

 

فى 17/4 نشرت صحيفة الحياة اللندنية أن قرارا صدر باعتقال الجنرال المتقاعد والنائب السابق لرئيس الأركان شفيق بيير وتسعة من رفاقه، بعد اتهامهم بتنفيذ الانقلاب على حكومة اربكان. وأضافت أن الجنرال بيير خضع لتحقيق مطول تطرق إلى سؤال عن دور إسرائيلى أو أمريكى فى الترتيب للانقلاب. كما سئل عن تعاون فنانيين وممثلين معه لإنتاج مسلسلات درامية تحدثت عن خطر الإسلاميين وعمدت إلى اشاعة الخوف من تأسيس جماعات إسلامية متطرفة، للإيحاء بأن ثمة خطرا يهدد البلاد.

 

(4)

 

حين يستعرض المرء على مهل تفاصيل أنشطة منظمة ارجنكون، فإن مسلسل الأحداث التى شهدتها مصر منذ بداية الثورة فى 25 يناير من العام الماضى وحتى الآن، يظل ماثلا أمام عينيه طول الوقت.

 

سيجد أن طرفا مجهولا رتب موقعة الجمل، وفتح السجون وهاجم أقسام الشرطة، وأطلق الرصاص على المتظاهرين، وآثار الإضرابات والاعتصامات، وأجج الفتنة الطائفية، ورتب خطف السيارات واقتحام البنوك، وحرض على حصار مجلس الوزراء، واقتحام وزارة الداخلية وتهديد وزارة الدفاع، كما أقدم على إحراق المجمع العلمى واقتحام المتحف المصرى ودبر مذبحة استاد بورسعيد، وسوف تستوقفك فى السياق حكايات المرشحين للرئاسة الذين استبعدوا فجأة والذين أعيدوا فجأة، كما لابد أن تثير انتباهك تلك الحملة الشرسة التى تستهدف تخويف المجتمع بكل فئاته من الإسلاميين، وترويعهم من مغبَّة اقترابهم من مواقع السلطة أو جهات إصدار القرار.

 

قد لا يخلو الأمر من التعسف إذا ربطنا بين كل تلك الوقائع ووضعناها فى سياق واحد، لكنك لن تخطئ إذا ما وجدت تشابها كبيرا بين الذى يجرى فى مصر وبين ما فعلته ومازالت تفعله منظمة ارجنكون، خصوصا فيما تعلق بإثارة الفوضى فى البلاد، والتخويف من الإسلاميين وتلطيخ صورتهم بالأوحال والأوساخ.

 

الفرق الأساسى بيننا وبينهم أنهم هناك عرفوا من المدبر والفاعل، أما نحن فلازلنا نضرب أخماسا فى أسداس، وتتراوح بين العبط والاستعباط، لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر مع ذلك أن فى مصر دولة عميقة تعمل فى صمت وتقبع فى الظل، وإن لم نعرف لها اسما بعد

فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.